في ظل التطور الهائل الذي شهده عصرنا والامتداد الحضاري مكاناً وزماناً والتكاثر السكاني لاسيما في المدن الكبرى تعددت الضرورات الأمنية لترتيب سلامة الإنسان ولاسيما في مجال وقايته من الحوادث العارضة، وأصبح تنظيم الدفاع المدني في المجتمعات المعاصرة من أهم التنظيمات الأمنية في حال السلم وفي حال الحرب، ولذا فإن الأمانة الأدبية والعرفان يفرضان علينا أن نذكر بكثير من الشكر والامتنان رجال الدفاع المدني الذين يبذلون جهوداً مضنية للحفاظ على سلامة الإنسان وسلامة ممتلكاته وبث روح الأمن في ربوع الأرض.
رجال الدفاع المدني من خيرة أبناء هذا الوطن يعملون بكل طاقاتهم ليكونوا الحماة الأكثر حرصاً على أمن وأمان الناس، وهم في طليعة الباذلين الذين يعطون دون انتظار مردود، لأنهم المؤمنون بالله ورسالته السمحة، ولأنهم الحريصون على الوطن والمملكة ورجالاتها ومواطنيها والمقيمين على أرضها الطاهرة بقيادة وتوجيهات رجل الأمن الأول في مملكتنا الغالية صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية ومساعدوه حفظهم الله، الذين يولون المواطن كل رعاية لأنه هو النواة الأهم في بناء المجتمع، وبرغم تعدد الحوادث التي تحدث يومياً وعلى مدار الساعة.. حريق هنا، واختناقات هناك.. سقوط وتعثر لمواطن هنا أو هناك، إلا أن رجال الدفاع المدني متأهبون على مدار الساعة بانتظار أي بلاغ ليهبوا للنجدة ولأداء الواجب المنوط بهم.
حين نتحدث عن رجال الدفاع المدني أي عن أولئك الجنود المجهولين، الباذلين كل غالٍ في سبيل أمن المواطن ونجدته في أوقات الشدة فلا يصح أن ننسى الدور التعبوي والإعلامي والتوجيهي الذي تقوم به إدارة الدفاع المدني منذ أمد طويل لتنبيه المواطن وإرشاده إلى أفضل الطرق للمحافظة على حياته وممتلكاته، حيث لم تترك سبيلاً إعلامياً إلا وسلكته من أجل توصيل المعلومة الأمنية إلى كل فرد وأينما كان بأسلوب واضح وسهل التطبيق.
تستهلكنا أعباء الحياة، وتطحننا في دائرة (الروتين) فلا نجد فرجة لكسر رتابته إلا في مواسم الإجازة، وغالباً ما تكون في فصل الصيف، حيث نترك وراءنا متاعب العمل، وشجون الرتابة وأقانيمها الباعثة على الملل والضيق، لننطلق مع أسرنا إلى أماكن مختلفة (الغابات، أو الشطآن، أو الاستراحات... إلخ) كي نقيم الحاجز الفاصل بين حقبة وحقبة من العمر، نجدد فينا طاقة إضافية نواصل بعدها رحلة العطاء للأسرة والوطن، لكننا في زحمة هذا الجديد الجميل نغفل عن أمور بسيطة قد تكلفنا فقدان أحبة على قلوبنا، وحزناً قد يستغرقنا العمر كله، ومع أننا نؤمن بقضاء الله وقدره، وبأن (الروح من أمر بي) وأن (لكل أجل كتاب) إلا أننا لا ننسى أيضاً بأن الله سبحانه أوصانا ألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة كما ورد في محكم كتابه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} سورة البقرة الآية(195)، كما علمنا نبي البرية محمد عليه الصلاة والسلام اليقظة الأمنية الرشيدة في وصيته لصاحب الدابة حين سأله: أأعقلها أم أتوكل؟.. فقال صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل)، فكل هذه دلائل بأن الحرص واجب، والمحافظة على النفس مهمة جسيمة، بل إن هذه المسؤولية الأمنية واجب من أهم واجبات المربي في البيت وفي المدرسة وفي المجتمع لأن رعاية النشء وحمايته من أول وأهم المسؤوليات الملقاة على عاتقنا كآباء وأمهات ومسؤولين.
أذكر، عندما كنا أنا وإخوتي في عمر الطفولة، ونخرج مع أهلينا في أوقات الإجازة إلى الشاطئ كنا نخضع لمراقبة شديدة من آبائنا وأمهاتنا، ونلتزم بتعليماتهم الصارمة.. (لا تقتربوا من الأعماق، لا تدخلوا إلى مناطق لا تعرفون عنها، لا تأكلوا من بضائع مكشوفة ومعرضة للجراثيم، لا ولا ولا) ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل كنا نشعر بأن مراقبتهم لحركاتنا وتحركاتنا دائمة، ولست أنسى جمال تلك الأوقات التي نقضيها بأمان وفرح، ونعود بعدها سالمين غانمين إلى بيتنا.
ما جعلني أذكر تلك الأوقات ذلك الخبر المحزن الذي قرأته منذ فترة قريبة، ومفاده أن (غرفة عمليات الدفاع المدني بمدينة الرياض تلقت عند الساعة (17.22) بلاغاً عن غرق عدد من الأشخاص بمستنقع مائي غرب مدينة الرياض، وعلى ضوء البلاغ تم تحريك فرقتين تضمان غواصين برئاسة ضابط متخصص في عمليات الغوص والإنقاذ، إضافة إلى أربع فرق إنقاذ وثلاثة قوارب وخمس وحدات إنارة وفرقة الكمامات وثلاث فرق إسعاف، ولدى الوصول إلى الموقع تبين أنه تم إخراج عدد ثلاث حالات من قبل بعض الأشخاص الذين كانوا موجودين بالقرب من الموقع وتم نقلهم سريعاً إلى المستشفى، وقد باشرت فرق الغوص والإنقاذ مهامها فوراً بالبحث والتفتيش تحت المياه حيث تم انتشال عدد سبع حالات وفاة في زمن قياسي، وتعود أسباب الحادث المأساوي إلى أنه بينما كانت أسرتان مع أطفالهما يتنزهون بالقرب من المستنقع المائي الكبير بوادي لبن، والأطفال يلهون داخل المياه الضحلة وبسبب قلة مراقبة الأسرة وجهلهم بخطورة الموقع الذي يتواجدون به، حيث يقع بالقرب منهم جرف شديد الانحدار داخل المياه فغرق طفل تلاه بنت ومن ثم توالى أفراد الأسرة في الاندفاع إلى المياه في محاولة لإنقاذ بعضهم البعض الأمر الذي أدى إلى وفاة عدد تسعة أشخاص إضافة إلى إنقاذ امرأة أدخلت إلى العناية المركزة في حال حرجة..)..
نعم كان خبراً مفزعاً تقشعر له الأبدان حزناً وألماً على فقد أسرة بكاملها بسبب إهمال كان يمكن تداركه وتلافي نتائجه بقليل من الانتباه والحذر، وباتباع تعليمات الدفاع المدني التي لم تآل جهداً في التنبيه والتحذير عبر حملاتها التوعوية وفي كل وسيلة إعلام ممكنة.. اللافتات والتلفزيون والإذاعة والنشرات والتواجد الدائم.. إلخ
ولكن قد تكون الثانية من عمر الزمن هي الفاصلة بين الحياة والموت، وهي شهقة تدخل ولا تخرج أو تخرج ولا تدخل حيث يتم أمر الله سبحانه وقضاؤه، وقد تابعنا من خلال الخبر الذي أسلفنا ذكره مجريات الاستعداد لانطلاق رجال الدفاع المدني والحشد البشري والآلي لتنفيذ النجدة، ولكن كان قد نفذ حكم الله، وكانت رحلة الإجازة لتلك الأسرة وبالاً عليها، فلا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم اجعل مأواهم الجنة، وثبت قلوب محبيهم وألهمهم الصبر.
ومن واقع الوفاء، وإعطاء كل ذي حق حقه أجد من الواجب ومن اللازم أن أنوه بالإشادة إلى مواقف رجال الدفاع المدني وواجباتهم الكبيرة ومسؤولياتهم الجسام في أعمال الإنقاذ وغيرها من المهمات التي تصب في حماية المواطن وممتلكاته، وحالة التأهب المستديمة التي يعيشها أولئك الرجال الجنود المجهولون الباذلون أرواحهم في كثير من المواقف في سبيل تلبية نداء الواجب، والبر بالقسم الذي عاهدوا فيه الله ثم الوطن والملك أن يكونوا الدرع الحامي لمصالح المواطن، ولعل الشواهد أكثر من أن تحصى.
إننا ونحن نشارك أسر الضحايا مصابهم الأليم نضم صوتنا إلى أصوات المسؤولين ونناشد أرباب الأسر أن يتوخوا الحذر والحيطة، وأن يراقبوا أولادهم ويرشدوهم إلى طرق السلامة، فالحياة أغلى ما يملكه كائن وهي خسارة للفرد وأسرته وللوطن، وقد قامت عناصر الدفاع المدني وبتوجيهات سعادة اللواء سعد التويجري الشخصية ومتابعته الدؤوبة وبأقصى ما يمكن من سرعة التوجه إلى مكان الحادث لكن وكما أسلفنا قد يكون الجزء من الثانية هو الفارق بين الموت والحياة.
( * ) عضو مجلس العالم الإسلامي للإعاقة والتأهيل
الرياض - فاكس 014803452
|