إن من أشد الظواهر الاجتماعية تلازماً للدول النامية وخاصية تميزها عن الدول المتقدمة تتمثل في قضية التعامل مع المستجدات المتأزمة والحوادث الطارئة وقصر النظر لديها في تفاعلها مع أي مشكلة تطرأ في طريقها ومن ثم التخبط في مسألة التعامل معها ناهيك عن إيجاد حلول ومخارج مناسبة وسليمة لها تساعدها في التخلص من آثارها السلبية ونتائجها المدمرة.
مشكلتنا حقيقة في العالم النامي هي أننا نعيش الفعل وردة الفعل حتى غدت مشكلاتنا التنموية هي المسيرة والموجه لأدواتنا التخطيطية واستراتيجياتنا المستقبلية فلا نتحرك تنموياً حتى تحدث المشكلة ولا نخطط حتى تستفحل الأزمة ولا نهيئ للعلاج حتى تظهر الأورام والأمراض.
إنها ظاهرة كنا نود أن نكون بعيدين عنها وبمنأى منها حينما نمني أنفسنا في هذا البلد المعطاء أننا على الأقل نسير في فلك التنمية ومسارها كيما نصل إلى مصاف الدول المتقدمة، لكننا مع الأسف الشديد نرى أننا غارقون في هذه السلبية حتى النخاع، إذ قلما نجد تحركاً تنموياً يفيد المجتمع من غير أن يكون ذلك على أنقاض مأساة حصلت أو مشكلة برزت أو ظاهرة اجتماعية سلبية انتشرت وبذلك تشكلت لدينا كما كانت لدى الكثير غيرنا في الدول النامية الأخرى وصمة ما يمكن أن يسمى في العرف التنموي ب (التنمية الإسعافية) وذلك بسبب أنه لا يسبقها أي نوع من التخطيط المركز أو الدراسات المعمقة القائمة على الاستشراف المستقبلي وإنما تنحصر فقط في وضع المسكنات والمهدئات كعلاج لحل مشكلة ملحة أو أزمة قائمة، أما محاولة البحث في كيفية حدوث المشكلة وكيف تكونت وترعرعت حتى ظهرت في الأفق ومن ثم كيفية التعامل معها وضمان عدم تكرارها وقطع جذورها فلا يحصل شيء من ذلك مع الأسف الشديد.
إن الأمثلة الدالة على مثل هذا التخبط في مجتمعنا لا تكاد تحصر وإنما نكتفي فقط بالإشارة إلى ما تواجهه الجامعات وما تمر به من تغيرات جوهرية تحصل لها من غير ما عناية أو دراسة مسبقة ولعل من أبرزها قضية إعادة الهيكليات الجامعية.
إن الأمر بحد ذاته لهو مسلك حيوي بل إنه مسألة تنموية ضرورية وأقصد بذلك أن تكون هنالك مراجعات مستمرة في كل فترة زمنية معينة يتم من خلالها تقويم المسيرة التعليمية ونتائجها وثمارها ومدى كفايتها ونجاحها في تحقيق الأهداف المرجوة منها، هذه أمور ايجابية لا يتنازع فيها اثنان، لكن أن تكون المسألة في قضية التقويم والمراجعة محصورة فقط في كونها ردة فعل وانعكاس لما يكتب هنا أو ينشر هناك بواسطة من هم بعيدون عن دائرة الاختصاص العلمي أو التنموي ليؤكد ويكرس من مفهوم التنمية القائمة على ردود الأفعال لا أقل ولا أكثر.
حينما يكثر الحديث عن الدراسات النظرية في الجامعات السعودية وأنها هي لب المشكلات التنموية ومسببها الرئيسي والمخرج للبطالة والمفرخ للعاطلين عن العمل والمنمي للانحطاط العلمي والتقني والمؤسس لانتشار الجريمة والمولد لانحراف الأحداث والمهيئ للتفكك الأسري وغيرها الكثير من المآسي والذي يعاني منه المجتمع لهي نظرة ورؤية لا تنم إلا عن قصور في النظر وتأكيد في ابتعادنا عن التقدم الحضاري وترسيخ في مفهوم التخلف التنموي الذي نعيشه وتوصيف للدولة النامية التي تعاني وتواجه المشكلات لكنها لا تعلم مصدرها ولا كيفية التخلص منها فهي لا تزال تدور في تخبط حول نفسها بحثا عن مخرج وبحثا عن علاج من غير أن تعلم أن هذا التخبط لا يزيدها إلا سوءاً وتعقيداً.
يجب أن يدرك كل محب لهذا البلد أن المشاكل التنموية التي تعانيها هذه البلاد سبق وأن عانت منها دول متقدمة كبرى واصطلت بنيرانها، ولكن الفارق بيننا هنا في هذا البلد الكريم وبين تلك الدول أن التعامل مع تلك المشكلات كان مختلفاً ومتمايزاً، إذ إن من أوضح المقررات في علم الاجتماع وأسسها الراسخة أن المشكلات المجتمعية إذا أصبحت ظاهرة فإنه من الخطأ الفادح إرجاعها إلى مسبب أو مثير أو مهيئ واحد بل إنها نتاج لتفاعل العديد من المعطيات والمسببات والمثيرات فتكونت وتناغمت حتى ولدت وأنتجت ما يراه المجتمع مشكلة اجتماعية كبرى يحتاج أن يقف عندها بجدية كيما يتخلص منها ومن آثارها.
إن عملية إغلاق قسم في جامعة هنا أو قسم في جامعة هناك لهو من سبيل وضع المسكنات والمهدئات التي لا يتجاوز مداها الزمني بعيداً ثم ترجع المشكلات من جديد ولكن بشكل أكبر وأعمق ومن ثم تبدأ عملية البحث عن وسائل سريعة وعلاجات مؤقتة وعن ضحايا جدد لتكون كبش فداء لخطط وبرامج عفوية وفاشلة.
إن بلداً مثل المملكة العربية السعودية لا يمكن أن تحل مشاكله التي يعاني منها الآن مثل البطالة وكثرة الخريجين وقلة فرص العمل بمثل هذه البساطة وبمثل هذه السذاجة في الطرح، يجب أن ندرك أن سكان هذه البلاد سيتجاوزون الأربعين مليوناً بعد عشرين عاما فقط وتشكل الفئة الشبابية أكثر من ستين بالمائة من مجمل السكان وهذا ما تشير إليه كل الدلائل والإحصاءات والتوقعات سواء رضينا بذلك أم لم نرض، وسواء سعدنا به أم سخطنا.
إنه لتحد كبير وعظيم، ولو كان العلاج مقصوراً على إغلاق قسم هنا وقسم آخر هناك لكن الأمر أيسر من أن يحكي فيه أو أن يؤبه له. إن المشكلة إذا دبت في المجتمع وتواجدت فيه فإنما هي مثل المرض في جسم الإنسان إن تجاهله وغفل عنه كبر وعظم حتى يقضي عليه وإن تعاهده بما لا يناسبه من علاج ربما زاده ألماً وتضاعفت آثاره حتى يقضي عليه وإن تعاهده بما لا يناسبه من علاج ربما زاده ألماً وتضاعفت آثاره حتى يفضي إلى ما أفضى إليه سالفه، ولكنه إن أحسن التعامل معه وعالجه بما يناسبه من دواء تخلص منه ومن سوءاته.
إن التفكير في عملية إغلاق الأقسام المسماة جدلاً بالأقسام النظرية (مع تحفظي الشديد على هذا المسمى) لهو من قبيل تعاهد المشكلات المجتمعية بالعلاجات الخاطئة والأدوية غير المناسبة لأن ذلك في ظني وأحسبه مؤكداً لن يعطي حلولاً ناجعة ونتائج يرجوها من يرتئيها ويسعى إليها أو يتحمس لها، ولا أدل على ذلك من أنه في كل عام يزداد العدد في قائمة الأقسام العلمية التي لا يجد المنتمون إليها وظائف مناسبة في المجتمع حتى في الأقسام التطبيقية مثل الزراعة والطب البيطري والرياضيات والكيمياء والفيزياء.. لا .. بل حتى في الهندسة.
نعم ربما يكون من الأجدى أو من الأجدر أو من الأسلم أن يعاد النظر في قضية القبول العشوائي الهائل في تلك الأقسام والذي عادة ما يكون من غير اختيارها بل إنه يفرض عليها فرضاً ليصبح قبولاً مرشداً يتناسب مع مخرجات العمل واحتياجات السوق، نعم ربما يكون من الأجدى التوسع في برامج الدراسات العليا في تلك المجالات والتوسع في ايجاد مراكز الأبحاث والفكر والدراسات المعمقة والأصيلة فهي التي في النهاية سوف تفيد المجتمع وتتفاعل مع قضاياه وتسانده بأبجدياتها العلمية في تعامله مع كل ما يواجهه من مشكلات.
إنني في نهاية هذه المقالة لأدعو بكل صدق أن يتبصر المتخذون للقرارات في المسائل التنموية في عواقب ما يقرونه من آراء وقرارات في سبيل المساعدة في إيجاد منافذ وقوالب تساهم في علاج الآثار الناجمة عن وجود المشكلات القائمة التي يعاني منها المجتمع وليكن شعارنا دائماً:
* لا لإغلاق أي قسم علمي في أي جامعة قائمة.
* لا لإيقاف أي قسم في قبول العدد المناسب لمن يريد الانتساب إليه.
* نعم لترشيد القبول في أي قسم تدعو الضرورة لذلك.
* نعم لفتح كافة السبل وتهيئتها لطالب العلم الجاد بما في ذلك التوسع في برامج الدراسات العليا والدبلومات العالية.
* نعم للتوسع في إيجاد المراكز البحثية والدراسات العلمية العميقة.
أسأل الله التوفيق والسداد للجميع، وصلى الله على نبينا محمد.
( * ) جامعة القصيم |