Friday 6th August,200411635العددالجمعة 20 ,جمادى الثانية 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "أفاق اسلامية"

«الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «30» «الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «30»
خيانة أمانة الكلمة.. من أمارات المنافقين والمفسدين «2- 2»

* الجزيرة - خاص:
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
صيانة أمانة الكلمة واجب على كل مَن ينتسبون إلى الإسلام، سواء فيما يتعلق بأمور الدين أو الدنيا، وذلك نظراً لما للكلمة في هذا العصر من تأثير عظيم وقدرة أعظم على الانتشار بفعل التطور الهائل في وسائل الإعلام والاتصال..
وفي الحلقة السابقة تعرَّفنا على بعض الأشكال من خيانة أمانة الكلمة.. وفي هذه الحلقة (الثانية) نتواصل مع طبيعة مسؤولية الكلمة ومسؤولية مَن يشتغلون بالكتابة في الصحف ووسائل الإعلام في الحفاظ على هذه الأمانة دون تشويه أو تحريف أو تضليل.. فما هي حدود وملامح هذه المسؤولية؟
في البداية يقول الدكتور عبدالرحمن المطرودي وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشؤون الأوقاف: إن القرآن الكريم في توجيهاته أوضح مكانة الأمانة، وبيَّن أن التكليف بهذه الأمانة ليس من باب اللغو أو الأمر الذي لا معنى له، فقال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم أمانة؛ لأن الله ختم به الرسالات، وأكمل به الدين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}، وهو القدوة والأسوة الحسنة التي نتأسَّى بها في القول والعمل، بل في كل أمورنا، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، فكان عليه الصلاة والسلام قدوة وأسوة في كل الأمور على إطلاقها، ومنها ما يتعلق بأمانة الكلمة وأهميتها في حياة المسلمين، فزكَّى المولى سبحانه وتعالى لسانه وقوله ونطقه فقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.
والقول السديد هو نتاج المنهج السليم والمعتقَد القويم، ومن محصِّلتهما العقل والتدبُّر ونقاء السريرة وسلامة المعتقَد وحسن الخلق، فأخذ صلى الله عليه وسلم يعلِّم أمته تلك القيم العظيمة والأخلاق النبيلة؛ لتكون هدياً لهم إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق).
الأمانة في القرآن والسنة
ويشير د. المطرودي إلى نصوص القرآن الكريم، وسنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، التي تؤكد على عِظَم أمانة الكلمة وترسيخ مكانتها في حياة الأمم، وتعرُّف أثرها الإيجابي أو السلبي على الفرد والجماعة، وإننا إذا لم نتوخَّ الحكمة وأمانة الكلمة والرزانة فيها، ولم نتخير ألفاظنا وندقق فيها بما يتناسب مع الزمان والمقام والمقال والظرف المحيط بنا، بل تركنا العنان لإدراكنا المحدود وأنفسنا الأمارة بالسوء، فإن الزلل وخاصة من النفس وهواها {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، وغير ذلك من الآيات التي تبين لنا وسائل السلامة والنجاة، فلا نقع فيما نُهينا عنه، ولا نتجاوز ما أُمرنا به؛ لأن الله سبحانه وتعالى شرع لنا منظومة عظيمة من القيم الفاضلة والأخلاق النبيلة تقينا من آفات اللسان وتوضح لنا مدى وقدر أمانة الكلمة.
والكلمة وردت في مواضع من كتاب الله سبحانه وتعالى بحسب الدلالات المرتبطة بها، فهي في الحق تندرج تحت قول الله سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، وهي في الحق كلمة التقوى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}، وهي في الحق أيضاً كلمة صدق وعدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}، وهي في الحق تدخل في نطاق قول الله سبحانه: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.
واجب إسلامي
وفي ضوء ذلك فإن المحافظة على أمانة الكلمة واجب على جماعة المسلمين، وإذا وجد مَن يستهين بأمانة الكلمة وجب على العلماء المعتبَرين تنبيهه إلى ذلك؛ لما في ذلك من خطر على عامة المسلمين، وإذا لم يمتثل وجب على وليِّ الأمر أن يأخذ على يده بالطريقة الشرعية المناسبة؛ حتى لا تهلك الأمة، وتغرق السفينة.
ويضيف د. المطرودي: ويزداد ثقل أمانة الكلمة ويعظم حملها، وتتضاعف خطورتها إذا اتسعت دائرة انتشار الكلمة وازداد عمق تأثيرها بين الناس، وتشتد المسؤولية إذا كانت صادرة عمن يمتهنون الكلمة من الدعاة والخطباء والكتَّاب والصحفيين، وممن يعملون في وسائل الإعلام بأنواعها وأنماطها المختلفة، ومن كل مَن أُنيطت بهم أمانة الكلمة في أي مكان وزمان؛ حيث تتسع دائرة انتشارها بين الناس، وإذا كانت أمانة الكلمة واجبة الأداء والعمل بمقتضاها على إطلاقها وبما يحققها، فإنها تكون أوجب وأشد إلزاماً وأكثر ضرورة في العمل بها، والتمسك بكل ما يؤدي حقها عند النوازل والكوارث وظهور الفتن عندما يتعلق الأمر بالأعراض؛ لخطورة ذلك على المجتمع المسلم، وعندما يتعلق الكلام بالمساس بأولي الأمر وأهل الحل والعقد؛ لخطورة ذلك على تماسك المجتمع ولتعارضه مع المقاصد الشرعية، وتعارضه مع قاعدة (دَرْء المفاسد مقدَّم على جَلْب المصالح)، ومخالفته لشرع الله في كل ذلك، وعندما يتعلق الأمر بأمن البلاد وتماسك أفراده وتكاتفهم؛ لخطورة ما ينتج عن ذلك من خوف وفزع وخلخلة للأمن، وعندما يتعلق الكلام بالدعاة والعلماء والمشايخ.
وإذا كانت أمانة الكلمة بهذه الدرجة من الأهمية في الأداء والوفاء بمقتضياتها، فإن أهمية الأداء والوفاء بمقتضيات تلك الأمانة تجري على الجميع بلا استثناء. ومن عوامل هذا الوفاء بتلك الأمانة والعمل بمقتضياتها أن تكون الوجهة لله سبحانه وتعالى، باعتبار أن الغاية من وجود الناس هو عبادة الله وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }، وأن يكون الكلام في الخير وكل ما هو نافع ومفيد للإسلام والمسلمين، وذلك طاعة لله ورسوله في ذلك؛ حيث يقول المولى سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، ويقول سبحانه: {فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا}، ويقول جل شأنه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ويقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}، ويقول: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}.
ومن عوامل الوفاء بهذه الأمانة البعد عن الغلو في الكلام؛ لقوله تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، وقوله جل شأنه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ}، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل الذي سبق ذكره: (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم). كذلك البعد عما يحدث فتنة أو مفسدة بين الناس.
وقد تضمنت الشريعة الإسلامية أحكاماً شرعية للمحافظة على الضرورات الخمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعِرض، والمال، والعقل؛ لما في المحافظة عليها من المحافظة على مصالح الخلق.
صيانة أمانة الكلمة
ومنها أيضاً البعد عن إشاعة الشائعات التي تفسد المجتمع، ومنها النهي عن أن ينقل الإنسان كل ما يسمع دون الحاجة الملحة إلى ذلك، ودون الاستيثاق من صحته ومصدره، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)، وفي رواية أخرى: (كفى بالمرء إثماً) رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (مَن حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) رواه مسلم في صحيحه.
يضاف لذلك عدم القدح في الولاة والعلماء؛ لخطورة ذلك على المجتمع المسلم وعلى تماسك أفراده، ولما في ذلك من الأضرار والمساس بالمقاصد الشرعية. وقد جاءت النصوص الشرعية التي تحث على احترامهم وإحلالهم وتقديرهم وعدم المساس بهم؛ لمنزلتهم في المجتمع، يقول المولى جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) رواه أبو داود.
ومن عوامل صيانة أمانة الكلمة الحذر من كل ما سبق في زمن الفتن خاصة؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من الفتن، وذلك لأن الفتن إذا حلَّت بمجتمع -أعاذنا الله منها- فإنها لا تبقي ولا تذر، ولا يقتصر ضررها على الظالم وحده، بل تصيب الجميع، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}.
ومنها التفرق والاختلاف وغيرهما، كذلك البعد عن كل ما فيه غيبة ونميمة وسوء ظن وسخرية وهتك للأعراض؛ لأن كل تلك الأمور من الموبقات الاجتماعية التي حرَّمها ديننا الحنيف أشد التحريم، وحذرنا من الوقوع فيها؛ لما فيها من أضرار جسيمة على الأفراد وعلى المجتمع، ولعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة، وألا يتكلم المتكلم بما لا يعلم وبما لا يعمل، وذلك لأنه إن تكلم بما لا يعلم فإنما يتكلم عن جهل، بل قد يكون في عداد الكاذبين، وفي ذلك تضليل للسامعين وتشتيت لهم، وتشويه لأفكارهم، ويكون الأمر أشد ضرراً وأكثر خطراً إذا تعلَّق بالفتيا أو بالأمور التي يترتب عليها أعمال جوهرية وأمور حيوية من الأمور التي يترتب عليها أن يعمل سامعها بمقتضى ما سمع، وفي ذلك إثم كبير وذنب عظيم، يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}، مع مراعاة عدم الخوض في الثوابت أو ما يناظرها، فثوابت الدين لا يجوز الخوض فيها بحال من الأحوال، وهي كثيرة، ومن أهمها ما يتعلق بالعقيدة في جميع جوانبها؛ مثل ما كان متعلقاً بذات الله سبحانه وتعالى، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو ما يتعلق بالقرآن الكريم والسنَّة المطهرة، أو بالصحابة أو بالأحكام الشرعية أو بالعبادات المفروضة.
ويؤكد د. المطرودي على أن يلتزم المتكلم بآداب النصح في الإسلام، وهي آداب عظيمة تبين العلاقة بين الناصح ومَن أُسديت إليه النصيحة، استخلصها العلماء من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية. وأبرز ما في تلك الآداب التي تربط الناصح بالمنصوح، وتجعله يقبل نصحه - بإذن الله- أن يكون النصح خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى، وبعيداً عن أي أهواء أخرى، وأن يتأكد الناصح تماماً من وقوع المنصوح فيما يستوجب نصحه به، وليس عن ظن أو تخمين أو وشاية، وأن يكون الأمر المنصوح به بعيداً عن خصوصيات المسلم التي لا يجوز لأحد أن يتدخل فيها، وأن تكون النصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة، وألا يكون فيه تجريح أو غمط لحق، وأن يتيقَّن الناصح ويستوثق تماماً بصحة ما سينصح به، وأن يكون مبنياً على أدلة من كتاب الله ومن سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف والتابعين، وألا يقع في فعل ما ينصح به وينهى غيره عنه، وأن يتم النصح في السر لا في الجهر وأمام الناس، فإن مَن نصح أخاه سراً فقد زاده وزانه، ومن نصحه جهراً فقد نقصه وشانه.
الصدق ضرورة
من جانبه يقول الدكتور سليمان بن محمد الصغير عضو هيئة التدريس بكلية التقنية بالرياض: إن التزام الصدق في الكتابة والقول أمر يحتاج إلى إرادة صُلبة، وعزيمة قوية، وإيمان وطيد، واحتمال كريم للتبعات، ولذلك قال بشر بن الحارث: (مَن عامل الله بالصدق استوحش الناس)، وقال ابن القيم: (لَحَمْل الصدق كحمل الجبال الرواسي، لا يُطيقه إلا أصحاب العزائم)، يتحلى الإنسان بأدب الصدق فيشرف قدره، وتطيب حياته، ويصفو باله.
أما شرف القدر فذلك لأن الصدق يدل على نقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل، كما أن الكذب عنوان سفه العقل، وسقوط الهمة، وخبث الطويَّة. وقد جاء ما يرشد إلى أن الصدق حسنة تنساق بصاحبها إلى حسنات، وأن الكذب سيئة تنجرُّ به إلى السيئات، وفي الحديث: (الصدق يهدي إلى البر..). ولا يستقيم لأحد سؤدد، أو يحرز في قلوب الناس مكانة إلا حيث يَهَبه الله لساناً صادقاً، وإذا ابتغى بالكذب منزلة فإنما يتبوؤها بين طائفة ضربت في أدمغتهم الغباوة، أو طائفة تؤثر اللهو على الجد، ويشغلها الخداع عن النصيحة.
الصادق الأمين
ويضيف د. الصغير: أما طيب العيش فإن الناس لا يطمئنون إلا إلى معاملة الصادق الأمين، وشأنهم الانصراف عمن أَلِفُوه يضع الكلمة في غير واقع، وقد يحرص الكاتب أو التاجر أو الصانع على لفت الناس أو على درهم أو دينار يقتنصه بكلمة غير صادقة، فإذا هو يُضيع سمعة طيبة وربحاً وافراً. ومن الشاهد أن الصدق يُكسب الرجل وقاراً، ويلقي له المودة في عشيرته والناس أجمعين. احترام الناس للرجل الصادق يدعوهم إلى النصح في صحبته، وإذا وضع بين أيديهم شأناً من شؤونه الحيوية قاموا عليها بإخلاص.
وأما صفاء البال فيتحقق من ناحيتين: أولاهما أن مرتكب الرذيلة لا بد أن يحس بوخز في ضميره، ويسمَّى توبيخ الضمير، والكذب من أفظع الرذائل، فوخزه في الضمير غير يسير، ومتى سار الإنسان في طريق الصدق وأقام بينه وبين الكذب حصناً مانعاً عاش في صفاء خاطر وراحة ضمير، ولم يكن لهذا الوخز النفسي عليه من سبيل.
وثانيتهما: أن مَن يلطخ لسانه برجس الكذب لا بد من أن تبدو سريرته، ويجر عليه شؤم هذه الرذيلة شقوة، فلا يلاقي من الناس إلا ازدراء، وربما رَمَوْهُ بالتوبيخ في وجهه. أما صادق القول فإنه يظل مصان الكرامة آمناً من مثل هذا الخطاب المشين.
ويقول د. الصغير: والمؤمنون الحقيقيون هم الذين يحرصون على الصدق في كل كلامهم وأفعالهم؛ لأنهم يتذكرون ثوابه الجليل، قال تعالى: {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، وسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم العَطِرة كل حدث فيه درس من دروس الأخلاق والآداب. روى أبو داود عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمَن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خُلُقه).
حسن القصد والاعتدال
والأمة الإسلامية امتازت بحسن القصد والاعتدال في جميع شؤونها، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، فلا إفراط ولا تفريط. عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: أثنى رجل على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (ويحك! قطعت عنق صاحبك) قالها ثلاثاً، ثم قال: (مَن كان مادحاً أخاه لا محالة فليقل: أحسن فلان والله حسيبه ولا نزكِّي على الله أحداً، أحسب فلاناً كذا وكذا، ويصفه بما فيه إن كان يعلم ذلك منه). فإذا رغب المسلم بمدح أخيه ليشجع على مكارم الأخلاق فيحسن أن يكون ذلك في غيبته؛ لئلا يدخل الغرور إلى نفس الممدوح، وأن يكون الثناء صدقاً ودون مبالغة، مراقباً وجه الله تعالى في ذلك. وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُمارِ أخاك ولا تمازحه، ولا تَعِدْهُ موعداً فتخلفه).
أما إذا انتشر الكذب في الحديث أو الكتابة أو الوعد أو الإخلاف في العهد بين أفراد المجتمع انعدمت الثقة فيما بينهم، وانقطع المعروف وعمل الخير، وعاش الناس في حذر من بعضهم؛ لذا عدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك من صفات المنافقين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). زاد في رواية مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم).
وقد امتدح الله تعالى الصادقين بالوعيد والموفين بالعهد بآيات كثيرة، منها قوله تعالى يصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}، وقال تعالى عن إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}.
أمانة التعامل في المجتمع
ويرى د. الصغير أن العهود والمواثيق يأخذها المسلم على نفسه في علاقته بإخوانه من أمانة التعامل في المجتمع المسلم الطاهر النظيف، والوفاء بتلك الأمانات هو واجب الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وما لم يَفِ بها كان خائناً لله، وخائناً لرسوله صلى الله عليه وسلم، وخائناً للأمانات التي أخذها على عاتقه وتعهَّد بالوفاء بها. وعلى أرباب الصحف والكتَّاب وغيرهم أن يجعلوا من كلمتهم قانوناً مرعيَّ الجانب، يقفون عنده ويستمسكون به، فإنه لمن المؤسف أن السرقات العلمية والفكرية أصبحت عادة مأثورة عن كثير من المسلمين، مع أن دينهم جعل ذلك أمارة النفاق، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدِّر الكلمة التي يقول، ويحترم الكلمة التي يستمع لها، وكان ذلك شارة الرجولة الكاملة فيه حتى قبل أن يبعث، عن عبدالله بن أبي الحمساء قال: (بايعت رسول الله بيعاً قبل أن يبعث، فبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: يا فتى، لقد شققتَ عليَّ، أنا ها هنا ثلاث أنتظرك).
ويطالب د. الصغير بضرورة وزن الكلمة ووجوب تنفيذها حتى لا تذهب هباء مع اللغو الضائع، على أن التلوين وعدم الأمانة ليستا فقط كلاماً يذهب سدى، ولكنها خرق للمصالح، وإضرار بالناس، وإهدار للأوقات. وليس الصدق خلة تافهة، إنها محمودة ذكرها الله عز وجل في مناقب النبوة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}. وسرد الصفات الفاضلة على هذا الترتيب يدلُّك على ما للصدق من مكانة، ولقد كان إسماعيل أصدق الناس وعداً حين قال لأبيه: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، لمَّا قال أبوه: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}، فإذا كان الوفاء بالوعد يجعله صادقاً فإخلافه كاذباً لا محالة. وليس الصدق فرعاً من الشجاعة الأدبية فحسب، ولكنه ثمرتها، وهو فوق ذلك ضرورة من ضروريات الحياة الاجتماعية لا تستقيم إلا به.
آثار الصدق ونتائجه
فمن آثار الصدق في المجتمع إشاعة المحبة بين الناس؛ حيث يشعر أفراد المجتمع بالثقة المتبادلة، ويرسي أسس التعاون الهادف بين الناس، ويساعد على نشر الفضائل وتقدير ذويها، ويجعل للحق هيبة في المجتمع تحدُّ من مجاراة المنحرفين ومداهنة المنافقين، وتسعد الجماعة وتنتظم شؤونها على قدر احتفاظها بفضيلة الصدق، فالمعاملات؛ كالبيع والإجارة والقرض والشركة، لا يتسع مجالها ويستقيم سيرها إلا أن تديرها لهجة صادقة.
والأمة التي تسود فيها فضيلة صدق الحديث، حتى يكون القائم بأي عمل موضع ثقة الجمهور، تتقدم حالتها الاقتصادية، ولا يجد عدوها الوسيلة إلى مزاحمتها ما دامت جادة صادقة. والصداقات التي تجعل أفراد الأمة كالجسد الواحد إنما يشتد رباطها على قدر ما يكون لهؤلاء الأفراد من الاحتفاظ بصدق الحديث والتعامل، وقد يكون للكاذب صديق من صنف أصدقاء المنفعة، ولكنه لا يستطيع أن يتخذ من إخوان الفضيلة صديقاً حميماً. أما الذي يستهين بالكلمة الكاذبة، ويطلق بها لسانه، فإنه يؤذي نفسه ويرهق المجتمع خللاً وفساداً، فالكاذب لا يعدُّ عضواً أضل فقط، وإنما هو عضو يحمل دماً مسموماً لا يلبث أن يسري إلى الأعضاء المتصلة به فيؤذيها.
وللصدق آثار أخروية في شعور المسلم بمسؤوليته ووقوفه مع الحق والتزامه نهجه، طاعةً لله وتقرباً إليه، فيكون أهلاً لرعاية الله وتأييده، جديراً بها، وبالفوز والنعيم في الدار الاخرة، فقد أمر الله أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين وخصَّ المنعَم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.
ويطالب د. الصغير المسلم بأن يدرك واجبه في التمكين لهذه الفضيلة في حياته الفردية وفي مجتمعه، كما أن على المجتمع المسلم والدولة المسلمة واجب رعاية الصدق وحمايته وتمكينه في صفوف الأمة، فالأمة الصادقة الأمينة تأخذ بعين الاعتبار معياري الصدق والأمانة في ميزان حياتها، فتجعلهما مقياساً لها في اختيار موظفيها بشتى مرافقها، وتوجِّه سياسات التربية والتعليم توجيهاً سديداً في مناهجها، فتُخرج الأجيال المؤمنة الصادقة، وتجعل وسائل إعلامها تؤدي وظيفتها لتحقيق ذلك في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved