Friday 6th August,200411635العددالجمعة 20 ,جمادى الثانية 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

نوازع نوازع
الناس والمال
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

أدلى الناس بدلائهم حول المال، وما زالوا وسيظلون، واختلفوا حوله من حيث طرائق جمعه وأساليب إنفاقه، كما تباينوا حول النظر إليه ومدى الاهتمام به، وأجهدوا قرائحهم في الذود عنه أو السخط عليه. وظل صامتاً لا يعبأ بما يقال حوله، وكأنما هو جبل لا يحركه سوى ثوران بركان لا ينال سوى بصيص من قمته. وجسَّد بعض الشعراء المال في شِعرهم وكأنه السيد المطاع الذي يتبعه القوم أينما حلَّ وسار، ورأوا فيه مناراً تتكسر عليه الكرامات الإنسانية والقيم والأخلاق، وأظهروا ذلك التوافق العجيب بين النساء وحب المال، وربطوا حبَّهن للرجال بمقدار ما يحصلن عليه من مال.
فها هو الشافعي يقول:


أنطقت الدراهمُ بعد صمتٍ
أناساً طالما كانوا نكوسا
فما عطفوا على أحدٍ بفضلٍ
ولا عرفوا بمكرمة يبوسا

أو القصيدة المشهورة لأبي العيناء:


إن الدراهم في المواطن كلِّها
تكسو الرجال مهابةً وجلالا
فهي اللسان لمَن أراد فصاحةً
وهي السلاح لمَن أراد قتالا

أو لقولهم:


ولو لبس الحمار ثياب خز
لقال الناس: يالك من حمار

أو لقول الشاعر في النساء:


فإن تسألوني عن النساء فإنني
خبيرٌ بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قلَّ ماله
فليس له في حبِّهن نصيب
يُردْن ثراء المال حيث وجدنه
وشرخ الشباب عندهن عجيب

هذا رأي من الآراء في المال. والبعض قد يرى غير ذلك، فيرى أن المال مصدر شقاء، وموضع عتاب من صديق أراد مساعدة فلم ينلها، أو قريب أراد صلة فلم يجزها، كما رأوا أنه قد يصرف المرء عن الآخرة، قال الشاعر:


يا نفسُ ما هي إلا صبر أيام
كأن مدَّتها أضغاث أحلام
يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرةً
وخلِّ عنها فإن النفس قدامي

وقال الآخر:


ألا إنما التقوى هي العز والكرم
وحبُّك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة
إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم

وقال آخر:


زيادة المرء في دنياه نقصان
وربحه غير محضِّ الخير خسران
هي الدنيا تُساق إليك عفواً
أليس مصير ذاك إلى الزوال
وما دنياك إلا مثل ظلّ
أظلَّك ثم آذن بالزوال

ومن الناس مَن يرى أن جمع المال ليس سوى أداة لتأليف الناس وكسب ودِّهم، ولذا فهو ينفقه في أوجه الخير والعمل الصالح، لا يرى فيه إلا سبيل رشاد، وما هو إلا عارية مستعارة تنتقل عبر الأجيال لينتفع بها بنو البشر, فترى صاحب هذا الرأي لا يقف عند حد، فيغيث الملهوف، ويصل الرحم، ويجبر كسر الكسير، ويجير مَن استجار به، ويلتمس حاجة الناس، ولآمالهم، ويسد رمق المعوز، ويرفع شأن ذوي النهى، ينفق على العلم إنفاقه على زوجه وولده، فتراه محبوباً من الناس محباً لهم، يألفهم ويألفونه، ويودهم ويودونه، كل له محب، وكل به فخور، يأنس بالغادي والرائح، بابه مفتوح، ومائدته لا يفارقها قريب أو صديق.
قال الشاعر:


مَن جاد بالمال مالَ الناسُ قاطبةً
إليه والمال للإنسان فتَّان

وقال آخر:


رأيت الناس قد مالوا
إلى مَن عنده مالُ

مال الناس إليه وأعطاهم لأن لديه المال فأعطى، ولو أنه بخل واستغنى لمال الناس عنه حتى وإن كثر معينه.


إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا
مَن كان يألفهم في المنزل الخشن

وقال آخر:


ذهب المال في حمد وأجْر
ذهابٌ لا يقال له ذهاب

وما أحسب المال إلا أداة فاعلة في هذه الدنيا الفانية، فمَن رأى أنه غاية ومنتهى المنى فقد طوَّق نفسه بنطاقه، وقيَّد نفسه بحباله، وسيعيش مطوقاً مقيداً، لا يرى سوى ما تحت قدميه، حبيس ذاته بماله، ومَن رأى أنه ليس سوى وسيلة لبلوغ مكارم الأخلاق عاش عيشة كريمة وأفاد واستفاد ونال غايته من الحب والسعادة، فاخترْ لنفسك ما ترى، وحسبك ميتاً وهم ميتون.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved