تمر الشهور بطيئة متثاقلة، يتخللها حر الصحراء ولهيب العمل، وسموم الأحداث المؤلمة، ويتراءى أمام القلب حلم جميل يتلخص في جملة واحدة تحمل أمنية واحدة: متى سيأتي الصيف؟ ومتى ستقترب الإجازة؟ فالجسد بحاجة إلى إجازة ومثله الفكر والقلب. ولكن متى ستبدأ تلك الإجازة.!
منذ الصغر ليس هناك أحب إلى قلوب التلاميذ الصغار من إجازة الصيف التي ترفع عن كاهلهم عبء الدروس والاختبارات والورطة بين المعلم والوالد أو الوالدة الذين لا يهدؤون دون الاطمئنان على حل الواجبات الثقيلة، وحفظ النصوص الأثقل.
ولكن ما أن تأتي تلك الإجازة وتبدأ حتى تنتهي، ولا أزال أذكر أن أقصر أيام العمر كله هي تلك الأيام التي تفصل بين الدرس والدرس، الدرس في نهاية العام، والدرس في بداية العام الجديد، وكأن الأيام بينهما تطير بل تتبخر إذا ما قورنت بثقل الأيام في المدرسة وأمام المعلمين الذين لا يسكن لهم لسان وهم يحثون على الجد والاجتهاد ولا يهدأ لهم قلم وهم يقوِّمون أعمال هؤلاء التلاميذ الذين تقع حياتهم كلها ضمن دائرة التقويم المستمر.
ليس الأمر مقصوراً في ذلك على تلاميذ المدارس، فالعاملون حيثما كانوا ينتظرون إجازاتهم بفارغ الصبر، مع فارق بينهما، وهو أن الموظف يبدأ منذ اليوم الأول لعمله في التركيز على (حصالة) السنة، يلقي فيها بحرص ولهفة كل ريال يقتطعه من كثير من جوانب حياته، لا ليدخره للعمر، بل ليرهنه ويوقفه على إجازاته التي ستبدأ في نهاية كل عام عمل.
تبدأ الإجازة، ويكسر الموظف (حصالته) وتحتضن جيوبه ما كان فيها، ثم يطلق العنان لحقائبه، وينطلق وفي إحدى يديه مخطط صيفي متكامل أمضى ردحاً من الزمن في رسمه ورصد عناوينه، وفي الأخرى تذكرة رصد عليها طريق الرحلة ذهاباً وإياباً.. ومنذ أن ينطلق، تنطلق معه عملية صرف الاحتياط، الذي يحمله، وبطاقات الائتمان التي فرضتها عليه تقنية العصر، وتراه يصرف على هواه وفي قامته نشاط وفي وجهه بهجة الانتصار على عوادي العمل.
وتمضي الأيام، وفي كل يوم يتناقص المخزون الصيفي، ويتواصل تناقصه إلى أن تأتي اللحظة الحاسمة.. لحظة النضوب.
فيضرب يديه على جيبه، فتعودان إليه (بخفي حنين)، لا مال في الجيب، ولا علم بما في الغيب، فتمتد يداه الاثنتان معاً إلى حزم حقائبه، ولكن ليس بذات النشاط الذي بدا منهما عندما حزمتها للسفر، وتتثاقل خطاه وهو في طريقه إلى نقطة العودة، تدور في ذهنه أفكار متلاطمة كثيرة يتربع على رأسها العودة إلى دوامة العمل، والبدء في جمع ميزانية الصيف القادم.
يعود فيبدأ في تسديد ما تراكم عليه من ديون بطاقات الائتمان، لأنه اختار عناوين باهظة التكاليف لمرحلته البائدة، وربما سولت له نفسه شراء الثمين من الهدايا، أو ارتياد الغالي من المطاعم والفنادق، وحين يسأله أحد عن رحلته يجيب: (والله تهبل، بس ما فيه أحلى من بلدنا) ربما هو صادق في ذلك، لأن بلد الإنسان أغلى البلدان أجملها ولكن الخوف أن البعض يردد العبارة ليداري بها خيبته من صيف العام الماضي، وإلا فكم في الوطن من مصاريف وأماكن جميلة تستحق أن نحث إليها خطانا، وهو بالتأكيد أقل صرفاً وأهنأ بالاً، ولعل بودار الخير في هذا المجال تبدو الآن أكثر من أي وقت مضى، فالكثيرون يقولون: (والله ما لنا خلق ها السنة على السفر).. هذه بادرة طيبة ربما تؤدي إلى صحة في الصرف الصيفي، بدلاً من ما نسهم به في بلاد الأغراب في الصرف الصحي.. وتاليتها؟!
فاكس: 2051900 |