في مطلع الثمانينات الميلادية وكنت في بداياتي الصحفية - ولا زلت - حيث أعمل محرراً في الشؤون الرياضية متعاوناً بجريدة الرياض، وكان الاتحاد السعودي لكرة القدم يسعى في البحث والتقصي للتعاقد مع مدرب جديد يتولى قيادة دفة المنتخب الوطني الأول خلفاً للمدرب السلف البرازيلي السيد (مانيلي) إذا لم تخنِّي الذاكرة الذي أقيل من تدريب المنتخب وقد سرت شائعات وأنباء متواترة عن عزم مسؤولي اتحاد القدم في الاستعانة بخدمات المدرب البرازيلي الشهير (زجالو) ليصبح المدرب القادم لتولي تدريب المنتخب وكان السيد زجالو يتولى تدريب فريق نادي النصر.
وقد طلب مني الزميلان الدكتور سعود المصيبيح والأستاذ محمد النوفل المسؤولان آنذاك عن القسم الرياضي بالجريدة أن أستطلع الأمر وأستجلي الحقيقة من خلال سؤال المعني بالأمر السيد زجالو بعد زيارة لتمرين نادي النصر.. وتنفيذاً لرغبتهما وبعد الحاح منهما ذهبت لمقر نادي النصر الواقع على شارع ما يسمى بالعصارات سابقاً.. وهو شارع له صولات وجولات شبابية!! شارع الأمير سطام بن عبدالعزيز حاليا وكان الوقت عصرا وهو الوقت الوحيد الذي تقام فيه التمارين وكذا أغلب المباريات.. وكان السيد (زجالو) يشرف على التمرين ومنذ دخلت النادي ويلازمني شعور بالخجل الممزوج بالخوف فحاولت التسلل بين الجماهير المتابعة للتمرين خطوة خطوة.. لعلي أصل لموقع يسمح لي بالتحدث مع زجالو بعد نهاية التمرين مباشرة.. ويأتي سبب هذا التصرف لحداثة التجربة وحجم وصعوبة المهمة!! بيد أن الذي لم يكن في الحسبان أن أجد نفسي بجوار سمو الأمير عبدالرحمن بن سعود بقدره ومقدرته والذي كان جالساً يتابع التمرين وبجواره طاولة صغيرة عليها كأس من الشاي فيه أوراق من النعناع الأخضر.
فتسمرت أرجلي.. وارتعدت فرائصي..وازدادت مخاوفي.. أنا مكلف بالاستفسار من المدرب وأنا الآن أمام صاحب القرار الأول في النادي.. وبعد دقائق، ولن أنسى هذا الموقف، وإذا بالقهوجي يحمل أكواب الشاب ويتجه بها صوب سموه والذي طلب منه أن يوزعها على من هم بجواره في أريحية وكرم وتواضع عجيب وبقي في الصينية أكواب زادت عن الموجودين فالتفت سموه رحمه الله إلى الخلف واشار للقهوجي نحوي وطلب مني الجلوس فكان هذا الموقف من سموه طريقاً للتحدث معه مباشرة دون خوف أو وجل وعرّفته باسمي ومهمتي فكان جواب سموه أسرع من طرح السؤال بأن نادي النصر وما يملك تحت تصرف الوطن.. وأن المدرب العالمي زجالو مدرب للمنتخب إذا رغب مسؤولو الاتحاد السعودي لكرة القدم في خدماته.. فتفتحت أساريري بهذه المعلومة بل ساهم سموه الكريم في وقتها في تسهيل عمل مقابلة مع الحارس سالم مروان - شفاه الله - والذي كان في رحلة علاجية وعاد للتو من خارج المملكة، مَنْ مِنْ الأشخاص يعمل مثل هذا العمل مع شخص مثلي؟ إنه التواضع.. والحكمة والفراسة، هذا هو الموقف الذي لا يمكن أن أنساه لأنه دفعني في مجال الصحافة للخروج بموافقة صاحب العلاقة على انتقال المدرب البرازيلي زجالو من حيز التوقعات الى حيز التنازلات وهو الموقف الأول من الفقيد والذي لن أنساه ما حييت!! وإن كان لي مع سموه موقفان يدلان على حسن بديهته وخفة دمه وهذان الموقفان يتعلقان بالتحكيم وهو المشهور له بصدقه ونقده في هذا المجال رغم تأكيدي بأن سموه لا يحمل الضغينة لأي حكم. ولا يبحث عن زلات الحكام ويستغلها للاساءة إليهم في السر وفي المكاتب الرسمية فهو لم يذكر أن أساء لحكم اساءة مباشرة في الملعب أو خارج الملعب بالفعل أو المكيدة أبداً بل انه لا يحاول التقرب إلى الحكام أو الاتصال بهم كما يفعل غيره!! أما عبر وسائل الإعلام فأسأل الله له المغفرة وأطلب من جميع الزملاء الحكام أن يحللوه وهم لذلك فاعلون ولمحبة (أبو خالد) مدركون.. أعود للموقف الجميل لسموه عندما صرح بعد نهاية مباراة النصر والشباب على استاد الملك فهد حيث كنت رجل خطوط في ذلك الوقت، مساعد الحكم الآن بعد تطبيق نظام التخصص تعبيراً جميلاً ونقداً لاذعاً فيه من روح النكتة والبديهة الشيء الكثير الذي لا يستطيع عليه أحد سواه حيث كان فريق الشباب وبالتحديد خط الدفاع يعتمد على مصيدة التسلل وكثرت حالات رفع الراية فقال سموه رحمه الله رحمة واسعة: الحكم إبراهيم العمر (مصاب بدمل في إبطه، لم يستطع انزال الراية) لا زلت أتذكر هذه العبارة رغم انها نقد لي إلا انها تدل على بلاغة الوصف وجمال النكتة..
أما الموقف الثالث لسموه والثاني في مجال التحكيم فقد طردت اللاعب مضحي الدوسري في مباراة تجمع النصر بالاتحاد في استاد الأمير عبدالله الفيصل بجدة، وبعد نهاية المباراة وفي صالة مطار الملك عبدالعزيز بجدة تقابلنا مع سموه وكان معي الحكم محمد النوفل وتشرفنا بالسلام عليه فقام على الفور باستدعاء مضحي الدوسري وقال له: قرار طرد الحكم سليم وحاول عدم تكرار هذا الخطأ مع العلم والكلام لسموه رحمه الله انني قد صرحت لوسائل الاعلام بأن الطرد غير مستحق، رغم انني غير مقتنع بذلك ولكن بعض الاندية التي لديها إعلام يدافع الاعلاميون عن لاعبي أنديتهم ويشككون في قرارات الحكام لهدف التخويف وأنا مضطر لمجاراتهم لكي لا تكون مشجعاً علينا جبناء على الغير، رحمه الله رحمة واسعة بما له من فكر، بما له من بُعد نظر، إن سموه كان يمثل إعلاماً ورئيس تحرير ومحررين لوحده وبمفرده.
أما الشيء الذي عرفته عن سموه فهو دعمه لبعض الاندية وخاصة أندية الدرجة الثالثة من خلال المساهمة بالتبرع بمواد بناء من حديد أو أسمنت لبناء مقرات كما ان له مساهمات في تسهيل اجراءات بعض المدربين للاندية وتيسير تأشيراتهم.. كما ان سموه رحمه الله لا يرضى بالظلم ويدافع عن المظلوم، ويقف مع اللاعبين من مختلف الاندية وفي قضايا عديدة جعلها الله في موازين حسناته يوم الحساب.. ومن خلال متابعتي لما كتب عن سموه من قبل محبيه عبر مقالات ومرثيات وذكريات في الايام القليلة الخالية حيث أجد الاجماع من الكل على حجم مكانته ومقدار حبه وان الأمير عبدالرحمن فقيد أمة ورمز رياضة، وأن الرياضة المحلية فقدت حضورها ووهجها وملحها وسكرها بفقده لما يملكه سموه من جسارة واثارة، وان أهم خلال سموه حب الوطن.. حب الوطن.. ثم حب النصر كما ان من أهم خصاله الكريمة الصدق والصراحة فما في قلبه يظهره لسانه.. كما انه لا يعرف مراتب الحقد.. أما الشيء الذي يفرح كل مسلم فسموه قبل وفاته بأسابيع حرص على صرف جميع الرواتب المتأخرة لجميع العاملين بالنادي واللاعبين وتذكرة بالاحسان والامتنان للعاملين بالاندية وما كلامه عن الشيخ عبدالرحمن بن سعيد الا من حسن الخواتيم.. ومن شاهد الحضور الكثيف للمصلين على سموه والمشيعين يشهد له بالخير.. اللهم ارزقنا حسن الخاتمة كما أحسنت له حسن الخاتمة بإذن الله.. اللهم ارحم عبدالرحمن بن سعود برحمتك.. واغفر له بمغفرتك.. وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله.. ودنيا خيراً من دنياه.. واجمعنا به وجميع المسلمين الاحياء والميتين في جنات النعيم.. والحمد لله رب العالمين..
و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
إهداء
(كفا بالموت واعظاً)
|