في الثمانينيات الهجرية كانت بلادنا تخطو ساعيةً للنمو، وفي التسعينيات والسنوات العشرين الأولى من هذا القرن أخذنا بالقفز عملاً وإنتاجاً وطموحاً.. حتى صِرْنا لا نرضى بالمقارنة مع أحد غير دول العالم المتطورة من الدرجة الأولى.
تلك القفزات حققت رفاهية لم نكن نحلم بها.. وسبَّبت لنا شداً عضلياً في بعض أجزائنا.. وأشغلتنا عن أمور هي أقل أهمية إذا قِيست بموازين الأمن والصحة والعلم.
لكن وبما أننا استكملنا أو (نكاد) تلك الأساسيات.. وجب الانتباه إلى موضوع علاقته بنا كوطن ومواطنين تصل إلى حد الضرورة ابتداءً بالناحية الوطنية مروراً بالناحية العقلية وانتهاءً بالناحية العاطفية.
وخطابي هذا هو عن صناعة تدير اقتصاداً حجمه بالمليارات.. وتدير أفكارنا وآراءنا عقلياً.. كما تدير أذاوقنا في اللباس والمأكل غريزياً.
وأقصد بذلك صناعة الإعلان.. التي لنا منها التلقِّي.. وللوافد إلينا (عن طريق وسيلة الاتصال) التوجيه.. هذه الصناعة الوطنية المتهالكة رغم حجمها.
ولي أن أتساءل: هل بناء صناعة إعلان وطنية أصعب مما تم إقامته وإنجازه على المستويات التنموية الأخرى؟!
لا شك أن بناء هذه الصناعة ليس أصعب مما تم بناؤه.. كما أن التطبيق العملي المطلوب للبناء لن يتم اختراعه وتجربته.. بل إنْ طُبِّق وجُرِّب على نطاقات أعرق مثل صناعة الإنشاءات والاستشارات الهندسية.
فقد قامت الدولة في التسعينيات الهجرية بإسناد مشاريع التصميم الهندسي إلى مكاتب هندسية محلية مع اشتراط وجود شريك أجنبي.. وبعد اشتداد عُودها تُرِك للمكتب الهندسي الخيار في تقديم شريك أجنبي من عدمه.
كما أسندت مشاريع الإشراف على التنفيذ إلى مكاتب هندسية محلية مع اشتراط وجود خبرات بمواصفات عملية وعلمية محددة يتم استقدامها إذا لم تكن فعلاً في طاقم الفريق العامل في ذلك المكتب الهندسي (بعد) توقيع العقد (وقبل) بدء المشروع.
هذا الأسلوب جعل المكاتب الهندسية قادرة على استقدام أكبر وأفضل الكفاءات الهندسية والمعمارية في العالم.. في وقت ندرت فيه الكفاءات المحلية.
كما أتاح لمهندسينا في القطاعين الحكومي والخاص الاحتكاك العملي المباشر بشكل يومي لمُدَد زاد بعضها على خمس سنوات مع كفاءات لم أبالغ حينما قلت: إن منهم الأفضل على مستوى العالم.
فكان الكسب مشاريع نُفِّذت على مستوى متفوق.. وقدرات وطنية هُيِّئت لها بيئة عمل على المستوى العالمي حجماً واحترافاً.. وبرامج تدريب كان الأساتذة فيها من خيرة الخبرات العالمية.
وكانت النتيجة (تكنوقراط) سعوديين يتسلمون حالياً مواقع قيادية تنفيذية مالية وإدارية على المستويين الحكومي والخاص.
قبل عقد من الزمان وجَّه الأمين العام السابق لمجلس الغرف التجارية والصناعية السعودية الأستاذ عبدالله الدباغ -رحمه الله- خطاباً إلى سعادة وكيل وزارة التجارة السابق الدكتور عبدالرحمن الزامل عن صناعة الإعلان.. لامس فيه المرحوم نقاطاً مهمة مثل السعودة والتستُّر، وعلَّل سبب عدم قيام تلك الصناعة بما يلي:
(إن الاستهانة بدور الإعلان وتنظيمه هو النظرة إلى هذه المهنة على أنها جزء من الإعلام الحكومي، ولا علاقة لها بالنظام الاقتصادي، بينما في الحقيقة هناك فرق شاسع بين الإعلان وفنونه والإعلام من الناحية الرسمية).
ختاماً.. هل تعلمون أن النظام لا يجيز لوكالات الإعلان الأجنبية العمل في المملكة؟ ومع ذلك تقوم الخطوط السعودية مروراً بكافة البنوك والشركات المساهمة مثل شركات الاتصالات والسيارات بالتعامل معها.. وتحايلاً على النظام فإن تلك الوكالات الأجنبية (التي لم تجد متستراً) ليس لدى موظفيها إقامات نظامية، بل هم يفدون إلى المملكة على تأشيرات زيارة، وبعضهم صار له عشر سنوات يجدِّد تأشيرة زيارته كل ثلاثة أشهر. فمتى سيتم توطين هذه الصناعة؟ ومَن المسؤول عن ذلك؟
|