مفهوم التنمية الاقتصادية مفهوم غامض وذلك لاختلاطه بعدة مصطلحات مثل التحديث والتقدم والتغير الاجتماعي والتحضر، وقد أدت هذه المفاهيم الملتبسة والغامضة إلى تجاهل الخصوصية التاريخية لشعوب ومجتمعات العالم النامي، كما أدى إلى وقوع نظرية التنمية في شرك التشويه والاختزال مرات فشوه مفهومها وعملياتها ومؤشراتها.
جاء ذلك في دراسة قدمت لمؤتمر تعليم الكبار والتنمية، وأوضحت الدراسة أنه من حيث المفهوم ظلت الجوانب الاقتصادية دون غيرها تتمتع بالأولوية على ما عداها من جوانب مجتمعية أخرى، فأصبحت التنمية مسألة اقتصادية فنية بحتة منعزلة عن كافة الوسائل الاجتماعية الأخرى وفي ظل هذا المفهوم للتنمية أعطيت الأولوية في استراتيجيات التنمية لتنمية الأشياء بدلاً من تنمية الإنسان مما قاد الإنسان لخدمة التنمية بدلاً من أن تخدمه التنمية. وأما التنمية كعملية اختزلت في نمط النمو الغربي مما جعلها ترتبط بالتغريب واختزلت في مجرد تقليد للنموذج الغربي باعتباره النموذج الأمثل والصيغة الوحيدة للتقدم والتغيير والتحديث. وقد اختزلت مؤشرات التنمية ومقاييسها في مؤشر واحد هو متوسط دخل الفرد من الناتج القومي الإجمالي بكل ما يحمله من تجاهل للاختلافات بين بلدان العالم من حيث الهياكل الاقتصادية والاجتماعية وفي مستويات الأسعار وبما فيه من تعتيم على قضية العدالة في توزيع الدخل بين الأفراد في المجتمع الواحد. وتذكر الدراسة أن هذه الأفكار والمفاهيم المغلوطة قادت العلماء إلى دحض الأسس التي تقوم عليها التنمية من هذا المنظور الاقتصادي الضيق بل إن المنصفين من علماء الغرب أعلنوا تمردهم على نظرية التنمية هذه. وفي هذه الحدود ظهرت أولاً الدعوة لتنمية شاملة تشارك في تحقيق التنمية المتجهة للداخل وذاتية التنظيم لتلبية الحاجات الأساسية وغير الأساسية للإنسان وإطلاق العنان لفكره وحريته وطاقاته الإبداعية مستندة في ذلك كله إلى مساهمات كافة القطاعات التنموية المجتمعية وفي مقدمتها القطاع التربوي التعليمي. وبدأت تعلو في ساحة الأدب التنموي نظرات جديدة أكثر حدة حملت معها تصورات نقدية جريئة للأفكار والنظريات التنموية المهيمنة وكشفت في قطاع كبير منها عن كافة المبالغات والتحريفات التي تتضمنها النظريات التقليدية. وانتهت هذه النظريات النقدية إلى ضرورة البحث عن مفاهيم وتصورات مغايرة وطرحت أسئلة جديدة ترتبط بقضايا ووسائل فكرية وايديولوجية أعمق من الإطار الكلاسيكي للنظريات التقليدية بأساليب تفكير ومناهج تحليلية بمناقشتها. وصارت مقاومات وصراعات تمخضت عن غياب اتفاق في الإطار التفسيري والمنهجي للقضايا المثارة. وقد ترتب على كل هذا بدء التفكير في البحث عن نموذج أساسي جديد خاصة أن مزيداً من الإحباطات التي تمخضت عن العقدين الثاني والثالث للتنمية قد شككت أيضاً في بعض المقولات التي دعت إليها النظريات النقدية الحديثة. وأشارت الدراسة إلى أنه مع نهاية الثمانينيات تبلور تفسير نظري بديل لعملية التنمية قوامه مراجعات نقدية واستشرافية وفحواه ان الاستراتيجيات التقليدية للتنمية قد استنفدت الموارد الطبيعية غير المتجددة بشكل خطير وأنها مجرد تطوير لعناصر الثقافة المعنوية للمجتمع من الداخل، وان الفاقد الصناعي الناتج عن تطبيق العلوم والتكنولوجيا في الأغراض الإنتاجية قد لوث البيئة، كما طرحت تساؤلات حول هدف التنمية هل هو زيادة كمية أم تحسين لنوعية الحياة. كما أظهرت تلك المراجعات ان التنمية في بعض المجتمعات المتقدمة تم الوصول إليها على حساب المجتمعات التي تخلفت مما يحتم على جهود التنمية ان تصحح عدم التوازن في التوزيع العالمي لفوائد التنمية. وهكذا وفي خضم الصراع والتناقض القائم بين الإطارين التقليدي والنقدي تم طرح نموذج جديد استحوذ على قدرٍ كبيرٍ من الاتفاق العالمي وكانت وكالات الأمم المتحدة هي المبادرة بطرح هذا النموذج الذي شاركت فيه لأول مرة الدول النامية بعلمائها جنباً إلى جنب مع علماء الغرب حيث تمت مراجعة دقيقة ومتعمقة للمفاهيم التنموية وخرجت الأمم المتحدة عام 1990 بتوسيع لمفهوم التنمية يرتكز على الإنسان كغاية ووسيلة في آن واحد وبشكل حاول أن يستوعب أبعاد التنمية والتقدم، تم فيه استبعاد للمفهوم الحسابي الضيق للتنمية على اعتبار ان الإنسان مجرد مورد إلى مفهوم واسع للتنمية يقوم على التنمية البشرية كبديل لتنمية الموارد البشرية وأصبحت التنمية البشرية تجمع بين إنتاج السلع وتوزيعها وبين توسيع القدرات البشرية والانتفاع بها، فالمفهوم الجديد يركّز أساساً على توسيع الخيارات أمام البشر.
وعلى الله الاتكال
(*) كلية التربية - جامعة الملك سعود |