بيت الداء في الراهن العربي الحديث (السلطة) المتذبذبة بين (العدل) و(التسلط)، وما من فتنة تلتطم أمواجها العاتية إلا وتحركها أعاصير التنازع حول سدة الحكم، ومن كفي أمره فقد نجا من كل غائلة، ولمّا تزل مفاهيم العلماء والمفكرين في أمر مريج، منذ شهيد المحراب (عمر بن الخطاب) حتى قعيد الحفرة (صدام حسين). وفي كل مرحلة تبدو المشكلة بثوب جديد، ويكون لها خطابها وخطباؤها وإشكاليتها، ولم يستحر الجدل العلمي (المؤدلج) إلا في العصر الحديث يوم أن سُيّس الدين والأدب، و(أُدلج) كل شيء، وسيم المسلمون الخسف. وكل حركة أو تنظيم لا يقومان إلا بحبل من الله أو بحبل من الناس، فدولة العدل والمساواة وإظهار الدين منصورة بنصر الله، ودولة الظلم والاغتصاب والتسلط مسنودة بحبل من الناس.
ولما سقطت (الخلافة) على يد (مصطفى أتاترك) بمواطأة من الغرب المسكون بالخوف من أي تحرّف أو تحيّز فكري إسلامي، اذن لكل قادر على القول أو الفعل أن يدلي بدلوه، عبر خطاب مستقل أو منتمٍ. وفي هذه المعمعة نهض (الفكر العلماني) الذي جعل قضيته الأولى الإجهاز على أي فكر سليم يرد الحكم إلى الله والرسول. وتهافت المفكرون والعلماء والساسة على الحديث عن آثار خلو المشهد السياسي العالمي لأول مرة من (الخلافة الإسلامية). وهو خلو فاجع يدمي القلوب. وفداحة الصدمة لم تتح فرصة للتأمل والتفكير، وإنما أدخلت الأمة في لجج من الفتن، وأصبح بأسها بينها شديد. والصدمة جاءت مذهلة على الرغم من أن (الخلافة) لم تكن متمشية مع المقاصد الإسلامية، ولم تكن من القوة العلمية والعسكرية والاقتصادية بحيث تمارس حقها بندّيّة، وليست منذ أن انتهت الثلاثين سنة التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم متمشية وفق المقتضى الشرعي، ولكنها مع كل هذه المعوقات ظلت رمزاً ينظر إليه الكافة، كما ينظر أهل المريض إلى مريضهم، فلا يأس مع رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكان معوّلهم أن المُلك لله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء.
وكانت الشرارة التي تحوّلت إلى ضرام كتاب القاضي الشرعي (علي عبدالرازق ت 1386هـ) (الإسلام وأصول الحكم) لأسباب منها:-
أولاً:- تطرّفه في تصور الفكر السياسي الإسلامي، إذ يرى أن الإسلام دين لا دولة وعبادة لا علاقة لها بالحكومة والسياسة، وأن الرسول لم يؤسس دولة، ولم يرأس حكومة، ولم يستخلف حاكماً، وما ورَّث إلا العلم.
ثانياً:- أنه جاء في لحظة حاسمة، فعندما سقطت (الأستانة) تململت (القاهرة) لتتلقى راية الخلافة، فأفسد هذا الكتاب ما كان القصر الملكي يؤمّله، وبهذه الضربة اللازبة قمع الاستعمار هذا التطلع، وشغل الأمة بالجدل العقيم حول مشروعية الخلافة من خلال هذه الصنيعة الماكرة، وقضي الأمر بعد اتفاقية (سايكس بيكو).
ثالثاً:- يعد الكتاب لعبة استعمارية للحيلولة دون التفكير بالخلافة من جديد، ومن ثم أصبح بداية حرب كلامية وتطرّف فكري مازال العالم الإسلامي يتجرع مرارته إلى ما بعد يومنا هذا.
رابعاً:- الظروف التي خرج فيها الكتاب ظروف استثنائية، فسقوط الخلافة أحدث فاجعة، أفقدت العلماء صوابهم، حتى حكموا بعودة الجاهلية الأولى، وتطرّف بعضهم بتكفير المجتمعات الإسلامية، لأنها استكانت، ولم تبايع خليفة، يحكم بما أنزل الله، ويرفع راية الجهاد لمواجهة (العلمانية) التي التبست مقتضياتها في أذهان الخاصة والعامة، وأصبح القول فيها محور أي (أيديولوجية) أو تنظيم حركي.
ولقد سبق هذا الكتاب كتاب يتناول إشكالية الخلافة للعلامة السلفي (محمد رشيد رضا، ت 1354هـ) (الخلافة أو الإمامة العظمى) ولكنه لم يثر من الجدل ما أثاره كتاب (علي عبدالرازق)، ذلك أنه جهد تطوعي، فيما جاء كتاب (عبدالرازق) جهداً تآمرياً, وإن قيل بأنه عمل صالح ضد تآمر المستعمر مع القصر بنقل الخلافة، ولو دخلنا في دوامة القول ونقيضه لبعدت علينا الشقة، ذلك أن بوادر السياسة كما آثار محترفي الإجرام تكون مطموسة المعالم، ودليل ذلك أن المؤلف لم يكن من ذوي الفكر السياسي، وما كان متوقعاً من مثله اجتراح مثل هذا العمل الجريء الخارج على كل الأعراف، حتى لقد وجّه الاتهام لمن هو أهل لمثل هذا التآمر وهو (طه حسين) إذ أشيع أنه هو المؤلف الحقيقي لهذا الكتاب الضجة. وفي تلك الفترة بدأت التحولات على مختلف المستويات، فعلى المستوى الاجتماعي كان (قاسم أمين)، وعلى المستوى الحضاري كان (طه حسين)، وعلى المستوى المرجعي كان (أبو رية) وما من قضية كبرى إلا ولها متمردها.
والمتابع لإفرازات الكتاب يقف على فرضيات متعددة، تدل على أنه عمل يكمن تحت سطوره عفن المكر الاستعماري. لقد تصدت له طائفة من العلماء والمفكرين أمثال (محمد الخضر حسين، ت 1377هـ) و(محمد بخيت المطبقي، ت 1354هـ) واقتصر جهدهما على نقض ادعائه، ولم يستدعيا ملابسات المقترف. فالإشكالية لم تكن حول اختلاف المفاهيم، وإنما هي حلقة من حلقات المؤامرة الكبرى التي لمَّا تزل تخلع قناعاً وتلبس آخر ويتعاقب عليها متمردون لوجه الرحمن أو لوجه الشيطان.
هذا التطرف في الآراء حول القضايا المحورية المصيرية أدخل الأمة في دوامة لا توقّف لها، وبهذه الآراء المتضاربة فُقدت (الوسطية) وحل محلها الغلو والتطرف والتنطع، وهذا الغلو نسل منه تطرف مضاد، ولكل رؤية وسط وطرفان، ولكل رؤية أشياع وأتباع، لا يترددون في إزهاق أنفسهم في سبيل فرض مشروعهم.
وعلى مستوى الدراسات الحيادية أو المنتمية طرحت عدة مشاريع:-
- مشروع (الفكر السياسي الإسلامي).
- مشروع (الفكر العلماني الديموقراطي).
- مشروع (الحكومة الدينية الثيوقراطية).
وكل هذه الأفكار ظلت حبيسة التنظير، إذ لم يفعّل مشروع منها وفق مقتضياته، وتداولت المشاريع الثلاثة ثلاثة انتماءات كمونية: الوطنية والقومية والدينية، وتخلل ذلك وسبقته إطلاقات جائرة، تكفر المجتمعات الإسلامية، لأنها لا تحمل بيعة إسلامية، ولا تخضع لخلافة إسلامية. ولقد كانت للمفكر الإسلامي (محمد عمارة) مجموعة من المؤلفات حول هذه المشاريع حاول فيها الوصف والتاريخ والتوفيق، وفي ظل التلبس العاطفي أمعن في عقلنة الخطاب، حتى عده البعض من معتزلة العصر. ووجدت طائفة من عشاق الشهرة والمخالفة أو عشاق العلمانية المتطرفة فرصة لإشعال فتيل الفتنة، وعلى رأس أولئك المستشار (محمد سعيد العشماوي) في مجموعة من الكتب من أهمها (الخلافة الإسلامية) و(الإسلام السياسي)، والماركسي الهالك (خليل عبدالكريم) في مجموعة من الكتب المليئة بالنقد الساخر للتاريخ السياسي الإسلامي، وبخاصة تاريخ الصدر الأول.
ودخلت طائفة من (الحداثويين) والمفكرين الماديين في هذه المعمعة مصعِّدة التوتر معمِّقة الصدام، جاء على رأسها (محمد أركون) و(نصر حامد أبو زيد) و(علي حرب) وكل (المتعلمنين) أو (المتحدثنين) يدلون بدلوهم في الشأن السياسي ونمط الحكم والخلافة، إما بطريق مباشر أو غير مباشر. وكلما ألممت بحقل السياسة في مكتبي قلت في نفسي:- لن يجتمع الأشتات، وتمنيت لو يتعاذروا ويذهب كل طرف بما قسم الله له. وآزر هذه الأشتات مصلحيون كل واحد منهم ركب الموجة التي تناسبه، حتى شاعت مقولة:- (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين)، وحتى جاء من يقول مقابل مقولة:- (إن تطبيق الشرع هو الحل) (هو اللا حل ذاته)، وهذا التراشق غير المنضبط صعّد التوتر.
كما أن الحِدة والحدِّيات صعدت الخلاف وعززت إمكانيات التطرف، ولو أن كل طائفة تحامت استفزاز الآخر، لكانت الأمور دون هذا التوتر. ولم يقف الأمر عند طرفي القضية، وإنما دخل المعمعة وسطاء توفيقيون أو تلفيقيون حاولوا التقريب بين وجهات النظر، دون معرفة تامة بالثوابت والمتغيرات، حتى لقد صار ضرر بعضهم أكبر من نفعه. هذا الصراع الفكري أتيحت له الفرصة ليتحول إلى صراع عسكري، وذلك بوصول بعض الطوائف إلى سدة الحكم، ولقد بلغت الأمة ذروة التوتر بتلاحق الثورات، وتعويلها على الدعم الخارجي الذي وجد الفرصة مواتية فثبّت وجوده بتعزيز الطائفيات والعرقيات والقوميات وجعل من كل ذلك ملفّات ساخنة يحركها متى شاء. وفي ظل التحكم الخارجي، واضطراب مشاريع الثوريين بين عدد من (الأيديولوجيات)، وفي درك الشقاء انحصرت كل الخطابات حول (السلطة) بوصفها الطريق الوحيد لطرح المشروع الفكري، وخرج الجيش من ثكناته، وأقبل من ثغوره، لينتزع السلطة منحياً المدنيين والدينيين، وتحول الشعب إلى غنيمة تعتورها سهام الأبناء والأعداء على حد سواء، وكم رددت الشعوب أمام مغتصبها من أبنائها:-
(قفوا وقفة المعذور عني بمعزل
وخلّوا نبالي للعداء ونِبالها) |
وفيما بين هذا وذاك التطم المشهد الفكري والسياسي بخطابات متعددة تبنّاها مصلحون سياسيون ودينيون مستقلون أو منتمون من أمثال:- (أبو الأعلى المودودي) و(سيد قطب)، ومثل هؤلاء تناولوا القضية من خلال انتماء فكري حركي معارض لسياسات قائمة، ولقد كان لمثل هذه التنظيمات دور في تنفيذ اللُّعب السياسية مواطئين أو متقاطعين، وكل لاعب محترف ينتهي بانتهاء اللعبة، وقد تكون لديه بقية من أقنعة تمد أمد بقائه على المسرح، ولمّا تزل قضية (الحاكمية) المصدر والمورد لكل مفكر إسلامي أو علماني أو متذبذب، والمختصون حول مفاهيم (الخلافة) و(الحاكمية) تجتالهم رؤى وتصورات يؤزها الضالعون في صنع اللعب والمتحكمون في مسرح العرائس. ولم تكن القضية شأن الحركيين وحدهم بل تناول الموضوع ساسة ومفكرون من خلال رؤية علمية، وما من متناول فكري أو علمي إلا وله همه ورؤيته وتشكّله الفكري وميله الفطري، فالنظرة العلمية الخالصة الحيادية غير ممكنة، ولو نظرنا إلى نقد (العقل السياسي) عند طائفة من المفكرين أمثال (محمد عابد الجابري) في مشروعه (نقد العقل العربي) لوجدنا كتابه الثالث في السلسلة يتناول الإشكالية السياسية من خلال محورين: (المحددات) و(التجليات). فالمحددات عنده تنطلق من عاملين: عامل الدعوة، وعامل الردة، ومؤداهما إلى الدولة أو الفتنة.
والمشهد الفكري زاخر بالأطروحات المتفاوتة حول الفكر السياسي الإسلامي ومشروعيته، فمن منطلق من التاريخ السياسي الإسلامي، ومن منطلق من النصوص الإسلامية غير المفعّلة، ومن مجتر لمقولات المستشرقين، ومن معوّل على عصور الفتوحات الإسلامية غير مدرك لواقع الأمة، ومن مستخذٍ محبط ميْئِس. وكل الأطروحات تتنازعها الوسطية والإفراط والتفريط. نجد ذلك عند (برهان غليون) في كتابه (نقد السياسة: الدولة والدين)، وعند (خلدون النقيب) في (الدولة التسلطية)، وعند آخرين تتفاوت اهتماماتهم ومدركاتهم ك(عبدالعزيز البدري) و(يوسف القرضاوي) و(محمد الغزالي)، وآخرين ركزوا على الصراع بين الإسلام والعلمانية. وأجمل من تناول نظام الحكم في الإسلام ووفَّاه حقه وحرّر مسائله وقدّمه بحثاً علمياً متوازناً الدكتور (عبدالحميد متولي) في كتابه (مبادئ نظام الحكم في الإسلام) وإن كان قد توسع في الحديث عن الفقه وأصوله بوصفه آلية تحديد الخلافة ومنهجها، والمتابع للطرح الفكري والسياسي تتفرق به السبل، وإن لم يكن على بينة من دينه فإنه سيضل الطريق، وقد يقع في التطرف من حيث لا يريد. وحتى الدساتير تجد بعضها يتملق الرأي العام فيقول:- إن الإسلام مصدر من مصادر التشريع وليس هو المصدر الرئيس ولا الشامل، وهذه التعددية في المصدرية تفتح آفاقاً من العلمانية بكل ما هي عليه من اضطراب في المفاهيم.
وحاجة الأمة في راهنها أن تحيد كافة الأطروحات المتشنجة والمثالية المتطرفة والصدامية المتنمرة، وأن تصرف النظر عن كافة الممارسات، وأن تسقط من حساباتها الخطاب الإعلامي التبريري، وأن تدخل معمارها القائم لإصلاحه من الداخل، فما عاد الاستبدال حلاً، وما عاد الهدم مطلباً، الإصلاح من الداخل وفي الداخل وبإرادة وطنية هو السبيل لتجاوز الأزمة القائمة، وليست المسمّيات ولا الأساليب مهمة، المهم النتائج. فإذا وجد العدل والإحسان والحرية والمساواة وإظهار الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثمة الحكم الإسلامي، وليكن النظام: ملكياً أو جمهورياً أو سلطانياً أو إماراتياً شورياً أو (برلمانياً) اختيارياً أو انتخابياً استخلافاً أو غير ذلك. العبرة بالمصائر، وما يتوفر للشعوب من حقوق مشروعة. وأخطر ما تواجهه الأمة جماعات الضغط (المؤدلجة) المسيّسة، والجماعات المنازعة للسلطة من وراء قناع المعارضة المشروعة، والناكثين للعهد المفارقين للجماعة تحت أي مسمّى. وكأني بالخلافة الأزمة كمعدة الجسم الإنساني التي هي (بيت الداء).
|