في عدد (11622) من صحيفة (الجزيرة)، وفي صفحة (عزيزتي الجزيرة) ظهرَ مَن كان من قبلُ يطلب باقيَ الردّ في هيئة مختلفة، وعلى حالٍ ما كان يخيّل إليّ أن يكون عليها، فقد آتى ردّاي الطويلان أكُلهما، وأبانا عن نتائجَ طيّبةٍ ولله الحمد من قبلُ ومن بعدُ، ذلك أني لم أكن أظن أن يستسلم الأخ بيسر كهذا، ولا أن يرضى بموقف الضعف، ويشتغل بحاشية القول، وطرح التهم، والانصراف عن جوهر الموضوع وصُلبه، والتسلل لواذاً عن الاعتراف بالحقّ والإذعان له، وهذا - غير ريب - حيلة العاجز، ولن أجعل مقالي هذا تهماً كذِباً، أو أعتصم بها من حميّا الردّ العلمي، فأنا أحترم عقول القراء وأوقّرها، وأعلم أنهم يدركون هذه الألاعيبِ، وأنهم لا يستهويهم الزخرف اللفظي والقعقعة المستدعاة والإجلاب بالقول الخطابيّ، فتلك أمور عفاها الزمن وعرفها الناس، وما كان ينبغي لأخينا أن يتعجل ثم يخرجَ إلينا خاليَ الوفضةِ قليلَ الزاد حتى يقولَ الناس: (إنه قد ردّ) وما كل الردود سواء، وهذا يُذكرني قولَ ابن المقفع: (خمول الذكر أجمل من الذكر الذميم).
وقد وجدتُ الأخ ها هنا كأنما آلى حلفة لم تحلل بألا يتقحم غماراً تفرّى بالسلاح وبالدم، وبحقّ فإنه قد أصاب الحكمة في ذلك، كما أنه لا يَحسن بمن لا يعرف السباحة أن يلقي نفسَه في البحر، وأنا أدعو شبابنا أن يصنعوا كما صنع صاحبنا هذا، فإن ما فعل هو عين الحكمة ورأس الصواب لولا أنه تسرع أولَ الأمر ثم ما لبث أن كفّ وأحجم، فحينَ يرى المرء ما لا قِبَل له به يدعه إلى ما يقدر عليه:
إذا لم تستطع شيئاًَ فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيعُ |
ومن أجل هذا تركَ الأخ مناقشة كل المسائل التي ذكرتُ، وعلى رأسها (بال، الاحتجاج باللغة، قعد وجلس، أمام، شباب) وانصرف إلى إلقاء التهم، حتى يحسب مَن لا يعلم أن هذا هو موضوعنا الأساس، وحتى يغطي شمس الحقّ بغبار الباطل، ثم أعاد أخطاءه اللغوية الفاضحة التي بينتُها له من قبل، ولكنه أصرّ مستكبراً كأن لم يقرأها، كأن على عينيه غشاوة، وقد تجلى لي أنه تكلف إقحامها في الردّ، ويحسب أنه يغيظني، وما علم ولا يعلم أنه إنما يغيظ نفسه ويجني عليها، ولا يضرني شيئاً:
وربَّ مريدٍ ضرّه ضرّ نفسَه
وهادٍ إليه الجيشَ أهدى وما هدى! |
ثم زعم أنه حلم عليّ في البدء (وحلمُ الفتى في غير موضعه جهلُ)، وتلك نعمة يمنها عليّ أشكرها ولا أكفرها، ثم ذكر أني دخلت بينه وبين ابن بخيت إذ قال: (فجاء صاحبي حارماً صاحب الرد من أحقية ردّه) وها هنا خطأ لغوي فإن (حرم) يتعدى إلى مفعولين بدون حرف جر، وأما ردي فما حملني عليه إلا الغيرة على لغة القرآن أن أراها تهدم حجراً حجراً، ثم إني لم آتِ على جميع ما نقدتَ فما زال لابن بخيت بقية لم أعترض عليها، ثم جعل الأخ - عفا الله عنه - يمدح ذاته ويزعم أنه أشرب الحكمة مع لبن الأمهات (هكذا، نرجسية وركاكة!!)، غير أن قلة محصوله اللغوي وعدم إتقان فهم مدلولات المفردات لديه جعله يقول: (مع لبان الأمهات) وهذا خطأ يضم إلى أخطائه اللغوية الكثيرة التي لا تليق بطالب الثانوية، بلهَ من يتقرب إلى أهل الأدب زلفى، وما هو إلا منوط بهم (كما نيط خلف الراكب القدحُ الفردُ)!
ثم زعم أني تراجعت عن التفريق بين (غير) و(كل) ولم أفعل، وزعم أني تراجعت عن نفي التفريق بين (قعد) و(جلس) وما فعلتُ، ولكن سوء الفهم إذا دخل شيئاً أفسده، فإن قولي: إني لا أنكر التفريق إنكاراً تاماً يعني أني لا أنكر على أحد أن يفرق، كما لا أنكر عليه ألا يفرق، لأني ذو نفس تقبل الخلاف، ولا تفرض قولها على كل أحد، وتزعم أنْ لا حقَ إلا هو، فإذا كان هذا قول كثير من العلماء وعملهم، كما أن التفريق هو قول جملة من العلماء؛ فلا يحق لأي منهما أن ينكر على الآخر!
وأنا أحسّ أن في صدر الأخ فريقاً كبيراً من التهم المُعَدّة عَيّ بها ولم يدر ما يصنع فنثرها ثم حاولَ أن يستدل لها فخانه الاستدلال؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، مثل زعمه أني أحسن النقول ولكني أوظفها في غير محلها، فقد استدل على ذلك بنقلي لقول الطناحي:(ماذا يلقى الأكابر من الأصاغر؟!) وزعم أن هناك فرقاً بين ما أراد الدكتور الطناحي وبين ما أردتُ، وهذا باطل، فإن الجامع بينهما متفق، وهو ما يلقاه العلماء الأكابر من المبتدئين الأصاغر نقداًً أو سوءَ أدب أو سوءَ فهم أو أي وجه كان، وقد قال قدامة بن جعفر في (نقد الشعر): (إنه من الأمور المعلومة أن الشيء لا يُشبَّه بنفسه ولا بغيره من كل الجهات إذ كان الشيئان إذا تشابها من جميع الوجوه ولم يقع بينهما تغاير ألبتة اتحدا.. فبقي أن يكون التشبيه إنما يقع بين شيئين بينهما اشتراك في معان تعمّهما...، وافتراق في أشياء ينفر كل واحد منهما بصفتها...) وهذا بيّن، ولكن الأخ لم يجد لتهمته دليلاً فابتدع لها ما لا دخل له!
****
ثم زعم أني انتقصت محمود شاكر، وقد قيل: (من لا حيلة له فليحتل) فإن أخانا حين ضاقت به السبل، ولم يسعفه علمه في أن يردّ رداً علمياً نصبَ بيني وبين العلامة الكبير محمود شاكر أبي فهر عداواتٍ وأضغاناً، يريد أن يستعطف شفقة القراء ورحمتهم فيكونوا في حزبه، ولقد يعلم أني أجلّ محمود شاكر وأعزّه، ولستُ أمامه إلا تلميذاً صغيراً، وليس لي أن أنتقص من شأنه كما انتقص أخونا - هداه الله - من شأن كثير من علماء اللغة ونسب إليهم - بالإلزام - سوء الأسلوب واستحكام الجهل، حيث أجمعوا على أخطاء يعرفها صغار طلاب العلم، إذ عرفها هو وهم كلهم جهلوها.
وأنا أتحداه أن يذكر قولي الذي انتقصت فيه من قدر شيخ العربية أبي فهر من غير تأويل!
ثم عاب علي أنْ أحمل بين جنبيّ ثقة منقطعة النظير، وأنْ أوقن بأني على حق ظاهر:
عيرتني بالشيب وهو وقارُ
ليتها عيرت بما هو عارُ! |
ثم قال بعد إذ بينتُ له جملة من الأخطاء اللغوية والنحوية وعندي أكثر منها: إن أسلوبه ليس الأسلوب الأمثل في الكتابة، وهو في ذلك صادق، فإن أخطاءه الكثيرة تجعل من المستحيل أن يكون كذلك، ولكني إنما ذكرت له أخطاءه لأبين له أن مَن حاله كذا فهو ليس أهلاً أن يتدثر بدثار الناقد، ويلج باب كل حوار، ويخوض في مسائل كبيرة، ثم إنه إما أن يكون يعرفها من قبلُ فلمَ لْم يستعملها وقد أكثر من الدعوة إلى الأفصح، أو يكون يجهلها وهذا أشبهُ به، ثم إن تكرارها في هذا الردّ إيماء إلى نزعة اللجاج المستحكمة في نفسه والرغبة عن الحقّ، فإن كان يرى أن هذه الألفاظ صحيحة فلمَ لمْ يردّ عليّ؟!
وأياً ما يكون فقد صدق المتوكل الليثي إذ قال:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليمُ؟! |
أما القول في زعمه أنه إنما يريد الأفصح، ولا يعني أن هذه الألفاظ خطأ فهو قول باطل عاذ به لما حُصر ولم يجد مراغماً كثيراً وسعة، وقد كان يسميها في أول رد له (أخطاء)، وقال أيضاً: (يظن أن البال هو الفكر أو الخلد أو اللب، وما علم أن البال هو الحال والشأن،... فالصواب...) فقد نفى نفياً تاماً أن يكون البال إلا الحال والشأن، ولم يشر ولو على عجل إلى المعنى الآخر، ثم زاد على ذلك أن قال: (والصواب) والصواب ضده الخطأ، فلم يقل: والأفصح، ودليل ذلك أنه قال في رده الثاني: إنه لم يعلم بأن للبال معنى آخر غير الحال والشأن، فهو في بادئ الأمر كان يقول: إن هذا خطأ، ثم رجع وقال: إنه يريد الأفصح!! كما قال: (من المعروف أن الجلوس بعد اضطجاع) ولم يقل: الأفصح، فهو يظنّ أن لا قول غير هذا القول، ويقول أيضاً: (يقول: الشباب، والصواب الشبان جمع شاب، وشباب مصدر...) فهو ها هنا يقول: إن الصواب الشبان، وهذا يعني أن الشباب خطأ، ثم يقول: إنه إنما يبتغي الأفصح! وقال أيضاً: (كلمة شباب مصدر وليست جمعاً) وأنا أسأل كل قارئ، أوَ يفهم من قوله: (ليست جمعاً) أنه يريد الأفصح أم يفهم أنه ينفي نفياً قاطعاً أن تكون جمعاً؟!، هذا شأن، ثم بعدُ فإن زعمه الذي دندن حوله كثيراً وهو أنه يريد الأسلوب الأمثل في الكتابة باطل من وجه آخر، فهو الأمثل ولكن بمعياره وابتداعه، فهل أجمع العلماء أو كادوا على التفريق بين قعد وجلس، ومن هم العلماء الذين قالوا: إن الشبان أفصح من الشباب، وإن البال غير فصيحة، وإن أمام بمعنى مقابل غير فصيحة، وهلا رددت على حججي التي قدمتُ، وقد كشفتُ عن هذه المسألة في ردي الأخير، ولكنّ أخانا ردّ من بعدُ كأن لم يقرأه!
ولقد كنتُ بينتُ في ردّي الأخير مسائلَ عدة طلب الأخ حججي فيها، ولما أن عرضتها امتنع عن الردّ، وخرج إلى السلامة، فإما أن يكون قد سلّم لها تسليماً فلمَ لمْ يذكر ذلك ويعترف بالحقّ، وإما ألا يكون كذلك فلمَ لمْ ينقضها فقرة فقرة، أو ينقض بعضها؟!!
ثم امتنع عن نقد عشرات العلماء الجلة محتجاً بأنه (لم يعرّض!) أحد منهم بأسلوبه، وهذا يعني أنْ لو عرّض أحد منهم بحسن أسلوبه لنقده الأخ (مع أن المعرّضين كثير ولكن القليل هم المصرحون، وابن بخيت صرّح ولم يعرّض، فهذا خطأ لغوي آخر في فهم دلالات الألفاظ)، ومهما يكن فهو يرى أنهم أخطؤوا جميعاً ولكنهم سكتوا، وابن بخيت أخطأ وتكلم!
ثم زعم أني كذبته في أنه عرض رده على ابن بخيت، وما كذبته ولكن ساء فهمه فساء قوله، وما حيلتي إذا كان فهمه غير مستقيم؟!
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً
وآفته من الفهم السقيم! |
ثم اعتذرَ عن إكمال الردّ، وهو الذي طالبني من قبلُ ببقية ردي، فإن كان يخشى أن يُكشف قلة علمه فليخفضْ عليه فقد كُشف من أول ردّ كتبه، وليس عليّ يحسُن الالتواء والمراوغة، فلو كان اعتذارك هذا من قبل لكان ربما صَدق، ولكن أما وقد جاء بعد ردّيّ الطويلين فلا!
وقد أنكر الأخ عليّ أني قد قلتُ: (الآن حصحص الحق) إذ قال: (أي حقّ هذا الذي حصحصته؟) فأقول: إن لم يكن حقاً فلمَ لمْ ترد عليه؟!
ومن الجليّ لديّ أن الأخ بدا في رده هذا كمن هو في خضم البحر وقد أدركه الغرق فتراه يصرخ صراخاً شديداً ثم لا ينشب أن يسكت، وما زلتُ أنتظر من الأخ تفنيداً لبراهيني ودحضاً لها فإن كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة، وإلا فإن الله - تعالى - يقول: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فإنْ يكن أعجزه الرد فإني أتصدق بقبول معذرته!
وأوذنُه في مؤخر الأمر أني لن أردّ عليه بشيء إن كان سيردّ بردّ كردّه هذا، إلا أن يتكلم على شيء من أس الموضوع، وله شكري ومودتي على الرغم من الاختلاف.
فيصل بن علي المنصور
بريدة |