Monday 2nd August,200411631العددالأثنين 16 ,جمادى الثانية 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "محليــات"

يارا يارا
الكتابة للتلفزيون
عبدالله بن بخيت

يوم أمس الأول طفنا حول كلمة الإبداع عند كاتب السيناريو وكاتب القصة.
اليوم سندخل في منطقة من مناطق الإبداع عند كلا الكاتبين.
في ثلاثمائة صفحة فقط تقرأ قصة حضارة كاملة أو قصة حياة إنسان من المهد إلى اللحد، وهذا الشيء نفسه تشاهده في ساعة ونصف في فيلم سينمائي. كيف يحدث هذا؟
كتابة الرواية أو القصة التلفزيونية تعتمد على غناء التفاصيل وعلى الحذف والاختصار في نفس الوقت. قد يبدو هذا الكلام متناقضا ولكن هذه هي حقيقة العملية الإبداعية. إن الفرق بين القصة الحديثة وبين القصة القديمة يكمن في التفاصيل. ولا أقصد بالقصة الحديثة تلك القصة الغامضة التي أطلت علينا في الثمانينيات ثم اختفت وإنما أقصد الروايات الحديثة ككل. من نجيب محفوظ إلى هامنجوي إلى ديستيفسيكي ..إلخ. والقصة القديمة أقصد بها قصة عنتر أو الزير سالم.... إلخ.
ربما قرأت قصة عنتر في طفولتك لو عدت لها الآن وقرأتها بشكل ناقد ستلاحظ أنك خرجت من القصة دون أن تعرف أي شيء عن تفاصيل حياة عنتر. لا تعرف عن ملامح وجهه شيئاً. لا تعرف عن مشاعره الداخلية. لا تعرف المكان الذي كان ينام فيه. لا تعرف الأمراض التي أصابته في حياته. لا تعرف أي شيء عن علاقته بأمه وبأخيه وبالناس الذين حوله. كل ما تعرفه هي تلك المغامرات التي يدخل فيها ويخرج منها منتصرا بحد سيفه وبشجاعته، وأن بشرته سوداء اللون. وأنه كان يعشق بنت عمه عبلة وبعض المسائل الأخلاقية والاجتماعية المتصلة بحياته. أي أن جل ما تعرفه عنه مجرد خطوط عريضة لا تجعلك تتفاعل معه أو تتفاعل مع حياته. ولكن لو قرأت قصة (خان الخليلي) لنجيب محفوظ ستلاحظ أن هناك تفاصيل دقيقة عن حياة البطل أحمد عاكف.أدق ملامح الوجه ، ملابسه، مشاعره الصغيرة المتضاربة والمتصالحة، أهله وأقاربه، حركاته، طريقة مشيه.. إلخ. تكاد تقول: إنك كنت تعيش معه. ورغم هذه التفاصيل فإن حجم الرواية لا يزيد عن مائتي صفحة من القطع الصغير.. كيف حدث هذا؟
هذه من أهم مناطق العملية الإبداعية. هنا تفترق القصة الحديثة عن القصة القديمة. يفترق الكاتب الفنان صاحب الخبرة عن الكاتب الفج. كما تظهر في هذه المنطقة الخبرة الاجتماعية في العملية الإبداعية.
لكي نعرف هذه العملية دعونا نأخذ مثالا على ذلك :
يقرر البطل في إحدى التمثيليات أن يذهب لتناول الفطور. كيف نعبر عن هذا الحدث في سيناريو؟
مشهد (1) (يلتفت البطل إلى زميله ويخبره بأنه سوف يذهب لتناول الفطور) مشهد (2) (نشاهد البطل ينهض من مكتبه ثم يتجه ناحية الباب ويخرج)، مشهد (3) (نشاهد البطل يمشي متجها ناحية المصعد)، مشهد (4) (نشاهد البطل وهو يدخل في المصعد)، مشهد (5) (نشاهد البطل يخرج من المصعد ويتجه إلى البوابة الخارجية للمبنى)، مشهد (6) (نشاهد البطل وهو يعبر الشارع متجها نحو المطعم)، مشهد (7) (نشاهد البطل وهو يدخل المطعم)، مشهد (8) (نشاهد البطل وهو يطلب من الجرسون)، مشهد (9) (نشاهد البطل وهو يتناول فطوره)، مشهد (10) (نشاهد البطل وهو يغسل يديه ويخرج من المطعم) وهكذا حتى يعود مرة أخرى إلى مكتبه.
كل ما عرفناه في هذه المشاهد هو أن البطل تناول فطوره. ولو قامت تمثيلية على مثل هذه التفاصيل لاستغرق عرضها سنوات حتى تكتمل. هنا تتدخل الحاسة الإبداعية والخبرة الدرامية لتمييز المشاهد الضرورية والمشاهد غير الضرورية في مثل هذا الحدث. هنا تبدأ لعبة العلاقة بين الكاتب والقارئ. بين المخرج والمشاهد. هنا يبدأ التراث المشترك بالحضور والعمل. فالقارئ أو المشاهد يساهم بدور كبير في إغناء التفاصيل بخياله وخبرته خصوصا إذا كان الكاتب يملك القدرة على تحريك الخيال بانتقاء أقل عدد من المشاهد الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها ويغنيها بالتفاصيل الصغيرة الضرورية التي قد تبدو تافهة في الحياة العادية. بواسطة هذه التفاصيل التافهة يستطيع أن يدفع خيال المتلقي ويستثير خبرته في الحياة. يمكن أن نختصر هذه المشاهد التي لا حصر لها في مشهدين فقط.
مشهد (1) يقف البطل ويقول لزميله خذ مكاني بروح أفطر
مشهد (2) يقف البطل أمام صندوق الحساب في مطعم وأمامه جرَّتا فول وهو يضع في فمه عود تنظيف الأسنان ويخرج من جيبه البوك ليحاسب. لاحظ التفاصيل التافهة كيف تلعب دور الإشارات الثقافية المشتركة بين الكاتب وبين المشاهد.
فالعود في الفم يشي بأن البطل للتو انتهى من الأكل، وجرار الفول تدل على أن الأكل كان فطورا والحساب في المطاعم في المملكة غالبا ما يكون بعد تناول الطعام لا قبله. وإذا أضفنا ما قاله البطل لزميله في المشهد الذي قبله سوف نستكمل قصة الفطور في ذهن المشاهد. لاحظ.. دخلنا في أدق التفاصيل بأقل الكلام. (لتختبر هذه الخاصية الأساسية في كتابة القصة أو التمثيلية التلفزيونية (خاصية التفاصيل والحذف) أمسك قلم رصاص وتابع قراءة واحدة من الروايات الجيدة (لنجيب محفوظ مثلا) ضع خطا تحت التفاصيل الصغيرة كأن يخلع البطل جزمته أو يحك رأسه أو وصف مشيته أو أكله.. الخ. ستلاحظ أنها مجموعة من الخُدع الفنية التي تمثل أهم ما في النص من إشارات إلى أشياء هامة وخطيرة تريد أن تقولها الرواية. أكمل قراءة الرواية وفي ذهنك هذه التفاصيل سوف تكتشف المدى الذي أسهمت به هذه التفاصيل في إغناء النص. أو طالع فيلما سينمائياً جيدا كالتيتانك أو مسلسلاً تلفزيونياً، كليالي الحلمية وفي يدك الريموت كنترول. وراقب الانتقال من مشهد إلى آخر من زمن إلى آخر. ستلاحظ أهمية التفاصيل الصغيرة في إغناء العمل.
ملاحظتان لابد منهما: الأولى تتعلق بالفرق الاجتماعي بين المرأة والرجل في المملكة من حيث المشاركة في الحياة العامة مما يؤدي إلى فراق في فهم التفاصيل عند إغناء النص. فمشهد جرتي الفول لم تقفه أي امرأة سعودية (أوردته عمدا) وبالتالي سوف يسبب ارتباكا في دلالته في إغناء النص إذا كان المشاهد امرأة. فهو لا يرسل الإشارة المطلوبة منه إلا إلى الرجل. لا أريد أن أناقش هذه القضية في الوقت الراهن لأنها خارج منظور هذه المقالات التقنية وأي تعرض لها سوف ينقلنا إلى الرأي والثقافة وأنا لا أريد أن أتحدث في هذا الوقت من السنة في أي شيء ثقافي.
الملاحظة الثانية. عندما يتعلق الأمر بالمشاهد الجنسية تسبب خاصية إغناء التفاصيل كثيرا من المشاكل بين الكتاب وبين الفعاليات المؤدلجة في المجتمع. وهذه الملاحظة تشبه الملاحظة السابقة في تجاوزها المسألة التقنية لتصل إلى الثقافة والرأي.
ملاحظتان تشيران إلى قضيتين خطيرتين، كل منهما تحتاج إلى مقال مستقل وهذا ما سوف أبحث فيه مستقبلا. في الوقت الراهن سوف نستمر في الكتابة عن التمثيلية التلفزيونية من الناحية التقنية فقط.
نكمل يوم الأربعاء القادم.

فاكس 4702164


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved