يبدو ان حربنا الداخلية على الإرهاب قد بدأت تأتي أكلها أسرع مما كنا نتوقع. وهذا بكل واقعية يُحسبُ إنجازاً ونصراً حقيقياً للسلطات الأمنية في المملكة وللقائمين عليها والتي تعاملت مع هذه الظاهرة بحزم من جهة، ومن جهة أخرى بروية وحصافة. وكنا نعلم منذ البداية ان الإرهاب ليس سوى مرض طارئ على مجتمعنا، وهو لا يسقط دولاً، ولا يهز استقرار المجتمعات على المدى الطويل، فضرره في النهاية هو ضرر إعلامي أكثر مما هو ضرر حقيقي. وكنا نقول ونردد ونؤكد ان المهم ليس هزيمة هذه الظاهرة، فهي مهزومة حتماً، إنما المهم ان نستوعب الدرس، وأن نتعامل من الآن فصاعداً مع ظواهر التعصب والتشدد الديني بلجمها ومحاصرتها وتطويقها لا بالتساهل والتسامح معها. كما يجب ان نعترف ان تعاملنا مع ظاهرة (جهيمان) بالتنازلات هو الذي أفرز ظاهرة ابن لادن فيما بعد، وكذلك ظاهرة الانتهازيين الصحويين، كما أشار إلى ذلك سمو الأمير خالد الفيصل في لقائه مع قناة (العربية). صحيح ان (تثوير الإسلام السني) سياسياً كان ظاهرة عالمية لم تقتصر على المملكة فحسب، وإنما شملت العالم الإسلامي، بل وغير الإسلامي أيضاً، إلا أنها في المملكة كانت أعلى صوتاً وأعمق تأثيراً وأوسع انتشاراً، فلم يكن صدفة -إطلاقاً- ان معظم انتحاريي 11 سبتمبر مثلاً سعوديون. كما ان كل المؤشرات تقول ان أغلب مجاهدي العرب في أفغانستان والبوسنة والهرسك وربما الشيشان أيضاً هم من السعوديين. والسعودية كتعداد سكاني -كما هو معروف- ليست الأعلى من بين الدول العربية، ومع ذلك نجد أن السعوديين هم دائماً يشكلون رقماً أعلى في كل ما يمت للعنف والجهاد بصلة. هذه مؤشرات لا بد ان نقف عندها طويلاً، وان نعترف بها، وان نبحثها بعمق وجدية لكي نضمن عدم تكرارها مرة أخرى.
وفي تقديري أننا تساهلنا كثيراً مع أولئك الدعاة الذين يتسمون (بالصحويين)، فتجرؤوا على حض الشباب على التمرد على الدولة وعلى الشرعية، وبالغوا في نقد المجتمع وتسفيهه وتجهيله إسلامياً، بل وتكفيره في بعض الأحايين، وكانوا حينما يتحدثون عن أوضاعنا الداخلية كأنهم يتحدثون عن دولة لا تمت للإسلام بصلة.
فها هو أحدهم، وهو من أساطينهم، يخرج شريط كاسيت يوجهه بصراحة ومباشرة إلى رجال الأمن، يدعوهم فيه جهاراً نهاراً إلى التمرد، ورفض الأوامر، والانصياع الى فكره الذي يعتبره دون غيره هو الإسلام (!!)، سماه،: (رسالة إلى رجل الأمن)، ومع ذلك بقي بعيداً عن المساءلة. أما الآخر، وهو صحوي مشهور أيضاً، فقد وصف المجتمع السعودي في إحدى مؤلفاته وصفاً لا يليق بمجتمع أبي جهل فكيف بمجتمعنا، يقول بمنتهى الجرأة: (لقد ظهر الكفر والإلحاد في صحفنا (كذا)، وفشا المنكر في نوادينا، ودُعي إلى الزنا في إذاعتنا وتلفزيوننا، واستبحنا الربا، حتى ان بنوك دول الكفر لا تبعد عن بيت الله الحرام إلا خطوات معدودات. أما التحاكم إلى الشرع -تلك الدعوى القديمة- فالحق انه لم يبق للشريعة عندنا إلا ما يُسميه أصحاب الطاغوت الوضعي الأحوال الشخصية (كذا)، وبعض الحدود التي غرضها ضبط الأمن (ومنذ أشهر لم نسمع شيئاً منهم عن حد أقيم)، ومع ذلك وضعنا الأغلال الثقيلة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصفدنا الدعوة والموعظة بالقيود المحكمة، وهذا من استحكام الخذلان وشدة الهوان ومن يهن الله فما له من مكرم)... هذا كلامه نقلته بالنص، والسؤال البسيط الذي يجب ألا نتجاوزه ونجيب عليه ونحن نتعامل مع هذه الظاهرة هو: إذا سمع مراهق لم يتعد عمره الثامنة عشرة مثل هذه الأقوال، ومثل هذه الأحكام، ومثل هذه التخريجات، ثم ثار وتطرف وتعصب، وخرج على الدولة وعلى شرعيتها بحجة أنها خارجة عن الإسلام -كما يقول هذا الشيخ- ألا يعتبر قائل مثل هذه الأقوال محرضاً له على الخروج، ومشاركاً معه في الجريمة؟.
قد يقول قائل: إن هؤلاء الصحويين تراجعوا عن مثل هذه (المزايدات) بعدما رأوا أثرها وخطرها وما انتهت إليه ماثلاً أمام أعينهم، ولكن، لو ان ذلك صحيحاً، لأعلنوا جهراً، وعلى رؤوس الأشهاد، ودون أية مواربة، رجوعهم إلى الحق دون الاكتراث بانعكاسات تلك الاعترافات على مواقفهم وقيمهم أمام مريديهم؟. هذه مواقف العلماء الحقيقيين أيها السادة.
إننا ونحن -على ما يبدو- نشهد نهاية حقبة الإرهاب، أجد أننا وبكل صراحة في أمس الحاجة إلى فهم البواعث التي أوصلتنا إلى هذه الظاهرة كي نمنع تكرارها، ويأتي على رأس قائمة هذه الأسباب أو البواعث (تساهلنا) مع كل من رفع شعار الدعوة للإسلام، وتمترس بقال الله وقال رسوله، حتى وان كان يدعو إلى فكر الخوارج،. ومن دون ان نقول للمخطئ أخطأت وللمحسن أحسنت، ومن دون ان نتصارح قبل ان نتصالح، ومن دون ان نتحاسب على هذا الأساس ومن هذه المنطلقات، سنظل بعيدين عن علاج ظاهرة الإرهاب، كما يجب ان تكون المعالجة، وستبقى هذه الظاهرة مثل المرض العضال الفتاك، يكمن حتى يضعف الجسم، ليعود نشاطه من جديد.
|