هذا التساؤل يتحدث عن خيارين متقابلين، في العلاقة بين الناس، وكثيراً ما تردد على ألسنة الباحثين والساسة في توصيف طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب، خاصة بعد أحداث سبتمبر.
وفي اعتقادي: أن هذا التساؤل جدير بالعرض، عند الحديث عن العلاقة داخل المجتمع المسلم، بين الأطياف والتيارات المتنازعة.
والإسلام أسس للتعايش بين المختلفين، حتى في الدين.
وقد عايش النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والوثنيين، والمنافقين بالمدينة، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي، وهذا من باب المصالح المشتركة. فالنبي صلى الله عليه وسلم اشترى، لأن في شرائه مصلحة له ولأزواجه، ولا يضيره أن يكون في هذه الصفقة مصلحة لليهودي البائع، فالحياة لا تقوم على السعي المستميت في حرمان الآخرين من مصالحهم، ولكنها تقوم على السعي في تحصيل مصالحنا، وإن تضمنت مصالح للآخرين.
بل الإسلام ترقى في العلاقة إلى ما هو أبعد من ذلك، وذلك للحرص الإضافي على مصالحهم متى كانوا غير محاربين.
والمجتمعات الإسلامية تشهد حالات من الصدام، حولتها إلى ميادين مفتوحة لحروب داخلية، تستخرج أسوأ ما في النفس البشرية من مشاعر، وتعوق مسيرة الإصلاح، والدعوة، والبناء، والتنمية. وهذا مصدر حزن وقلق وتعاسة لكل الذين يعنيهم مستقبل هذه الأمة وهذا الدين.
وأحد مظاهر هذا الصراع - وليس هو الوحيد - ما تقوم به بعض الجماعات الدينية المتشددة من حمل السلاح، ومحاولة فرض الرأي بالقوة، وهذا ما جرى في مصر والجزائر والسعودية وغيرها.
وأعتقد أن أهم المآخذ على هذه الجماعات هو: استخدام القوة في غير موضعها، وشهر السلاح بغير مسوغ.
إن المجتمعات الإسلامية، ومنها المجتمع السعودي مهيأة للصدام إذا لم تشرع لها قنوات الحوار المسؤول.
وفي السعودية أعلنت الدولة عن مشروع الحوار الوطني، وبغض النظر عن استباق الحكم على نتائج الحوار، والتي لم تتبلور بعد بصورة واضحة، إلا أنني أعتقد أن الحوار كمبدأ يجب ألا يكون محل خلاف، وأن يشاع ويتخذ عادة في العلاقات على صعيد الأسرة والمدرسة، والمؤسسة، والمسجد، والوسيلة الإعلامية، والسلطة السياسية.
وليس الهدف من هذا الحوار هو أن يتحول طرف إلى ما يريده الطرف الآخر، أو يغير مذهبه، أو قناعته، وإن كان هذا ممكناً، وأثراً من آثار الاستماع إلى الآخرين، والتسليم بحجتهم، ومنطقهم، ولكن الهدف الأول هو الاتفاق على كيفية التعامل، والمصالح المشتركة، وتجنب الصدام ما أمكن.
فالمجتمع السعودي متنوع عقدياً: فهناك السنة، والشيعة، والصوفية، وغيرهم.
وفقهياً: فهناك المذاهب الأربعة.
ومناطقياً وفكرياً: فهناك التيارات الإسلامية، والليبرالية، والوطنية.
وأجد أنه بسبب أحداث العنف التي تشهدها البلاد برزت أطروحات إعلامية مدعومة من بعض أطراف رسمية بصورة علنية، تحضر ولو بغير قصد لنوع من الصدام داخل المجتمع تحت دعوى مكافحة الإرهاب، مع توسيع مصطلح الإرهاب، ليشمل مع العنف الأفكار المتشددة التي لا تخلق عنفاً، والاتجاهات المعتدلة التي لا تتفق مع مشربهم!!
وثمة صوت جرئ يُعلن الانقلاب على كثير من قيم وموروثات المجتمع، ويسعى لتمرير هذه الأجندة من خلال إدراجها ضمن مشروع (مكافحة الإرهاب).
نعم ليس كل ما في المجتمع من موروث يجب التسليم له لكن لا بد:
أولاً: من الاتفاق على مرجعية شرعية محكمة، وذات تمثيل مؤسسي واقعي صادق، لضبط المسار، وحماية المجتمع من الانهيار.
ولا بد، ثانياً: من الهدوء في المعالجة، فأنا لا أؤمن بالحركات الانقلابية، لأنها تكرس المشكلة، ولا تحلها.
لقد قلت هذا الكلام قبل أيام، ثم سمعت (ليلة الجمعة 5-6-25هـ) في برنامج حواري مع أستاذ سعودي من جامعة هارفارد تعبير (الثورة) حرفياً!
يجب أن ندق ناقوس الخطر، ومن الأمانة والنصيحة لمجتمعنا أن نحذر من خطر قادم، ولو بعد عشر سنوات، أو عشرين سنة، يتمثل في صدام بين التيارات الدينية، وهي ذات امتداد، وعمق، ورسوخ في مجتمعنا، شاء من شاء، وأبى من أبى، وهي هنا غطاء واسع يشمل الرسمية منها، وغير الرسمية، التقليدية، والحركية، المعتدلة، وغير المعتدلة.
وبين التيارات الأخرى الليبرالية، وما يندرج في سلكها، الرسمي وغير الرسمي، البعيد والقريب.
والمعروف أن القوة نوعان:
أ - القوة الصلبة، وهي السلاح والبندقية.
ب - القوة الناعمة، وهي الإعلام ووسائل التأثير والضغط.
والشيء الذي يثير استغرابي أن بعض هؤلاء المتحدثين يدعو إلى التهدئة مع أطراف داخلية يقر بوجود خلافات تاريخية معها، وهذا بحد ذاته أمر مفهوم.
لكن لماذا لا نتعامل مع ما نسميه بالتيارات الدينية الظاهرة، والخفية بالأسلوب ذاته..!!
مع اعترافنا بأنها واقع قائم وموجود..!!
لماذا لا نؤسس للتنوع، والاختلاف في الرأي، ونجعل الحوار الموضوعي البعيد عن التشنج وتصفية الحسابات الشخصية، هو السبيل إلى أن يفهم بعضنا بعضاً!!
لماذا لا تسعى الأطراف كلها إلى إشاعة قيم التسامح، والعفو، وحسن الظن، والتجاوز والتعافي، بدل التراشق، والتهم، وكشف الأوراق!!
إن أهواء الناس ومقاصدهم لا تتناهى، وحمل المجتمع على هوى فئة أو أخرى ليس رشيداً، ولا ممكناً أصلاً، ويبقى الحل الصحيح في نظري هو الاستعداد لفهم الآخرين بصورة صحيحة، ومحاورتهم بحكمة وهدوء، والتسليم بحق الاختلاف ضمن المرجعية الشرعية الواسعة، والاتفاق على حفظ مصالح البلد وأهله، والوضوح في التعامل بعيداً عن المكايدات والحيل الخفية.
ويشهد الله أني لا أقول هذا إلا من منطلق الخوف على هذا المجتمع من انفراط عقده وتشتت وحدته.
والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
|