نظر إلى قائمة الأدوية التي كتبها الطبيب المعالج، وهزَّ رأسه غاضباً وهو يقول:
- كل شيء يجري في هذا العالم ضدي، أنا العبقري الفذ..
وكانت عضلات وجهه المتشنِّجة تبدو كقطع من الحجارة الصلبة، وعيناه تتقدان غضباً.. بل كان كله.. كل ما فيه كبرميل ديناميت، مستعداً للانفجار.. كانت أي كلمة من زوجته أو ابنته كشرارة إن مست هذا البرميل، تدفق الغضب أشكالاً وألواناً..
سألته : من أنت؟
أجابني وجسده المتشنِّج يرتفع إلى الأعلى، وقامته الممتلئة توحي لك بما سيقول:
- أنا فلان.. مثلي مثل.... (وتتردد على شفتيه أسماء عظماء في السياسة والأدب والمال..!)
وجدي فلان الذي كان يهز الدنيا إذا حرَّك يده.
قلتُ :
- ولِمَ أستدنتَ المال الكثير من هنا وهناك (ذاكرة له أسماء الجهات والأشخاص)؟
قال لي وكأنه يدير شؤون كل الناس:
- أنا أعطي الفقير فلاناً.. وأنفق على الكفيف فلاناً.. وأدفع أجر السيارات التي أتنقل بها، وأقوم بتجارات عديدة صغيرة سأثبت لكِ ولغيركِ قدراتي في هذا المجال.
قلت: ولكنك موظف، دخلك محدود، ولا علم لك بالتجارة أو غيرها من الأعمال.
أجاب : صحيح بعض ما قلتِ، أنا موظف لكن عائلتي غنية ميسورة.. أما ما أعرفه عن حركة المال ومردود هذه الحركة فلا أحد غيري يعرف ما أعرفه.. أنا أشتريت كمية من الخضار، وبعت منها ما بعت، ثم وزعت الباقي على أهل الحي كلهم.. تصوري أنني أطعمت الحي كله منها؟
قلت : لكنكَ بعد المراجعة والتدقيق بما بعت ووزعت.. أنتَ قد خسرت..!
قال : بتواضع: خسرت.. آه.. أنا أطعمت الجميع.. وضحك..!
قلت : أتمضي معي إلى الطبيب فلان؟
قال : ولماذا ؟ هذا الطبيب (فلان) لا يعرف شيئاً، سيقول لي إني أتلف المال، ومتشنِّج العضلات.. ثم يكتب لي دواء يسبب لي الغثيان، وربما التقيؤ.
قلت : إنه طبيب متخصص، وهو يساعدك لتعود إلى عملك وأسرتك، وتتوقف عمليات إهدارك للمال، صدقني لستَ أنت ولستُ أنا من هؤلاء العباقرة الذين تتحدث عنهم، وإذا مضيت معي إلى الطبيب فسوف أكرمكَ وأدفع فاتورة الكشف وأشتري لك الدواء، وأحصل لك على تقرير طبي يغطي غيابك عن العمل.
قرأ قائمة الأدوية.. حقنة بالعضل كل شهر مرة.. إلخ.. أربعة أدوية.. حبة ثلاث مرات يومياً.. حبة صباحاً وأخرى مساء... إلخ.
وبعد أخذ ورد، وبتعاون من أسرته كلها، بدأ يتناول الطعام، ويأخذ الحبوب والحقن.
كانت المفاجأة حين أخبرتني زوجته أنه يريد بيع بيته، وأنه باع جزءاً من أثاث البيت، وحتى أجمل الملابس التي يملكها وزَّع بعضها، وباع بعضها الآخر، كما أدركت أنه لا يتناول الدواء بانتظام، وحين كاشفته، اعترف لي بذلك، وسعيت مع مجموعة من أهل الخير، وأدخلناه للمشفى، حيث أجبر على تناول الدواء، وأخرج منه بعد شهر ونصف الشهر لأننا لم نستطع دفع المبالغ الكبيرة التي تتقاضاها الإدارة وأطباؤها، وكان الطبيب المشرف عليه طيِّب القلب، نظيف النفس، أعطانا قائمة الدواء، وكتب في أسفلها: وإذا توفر الدواء كذا يُستغنى عن جميع الأدوية الآنفة الذكر، ويأخذ حبة واحدة عند المساء.
زرته.. فأخبرتني زوجته أنه يتناول الأدوية بانتظام، لكنهم غير قادرين على شراء الدواء البديل، فثمنه يعادل مرتبه الشهري، وحين قدم إلينا، كان نحيلاً قد فقد الكثير من جسده الممتلئ ووجنتيه النضرتين، وكانت قدماه ترتجفان وتهتزان مع كل خطوة يخطوها.
قلت مفزوعة : لِمَ هذا؟
نظر إلي نظرة تبعث الأسى من مرقده، وقال بصوت مرتجف يغص بالبكاء..! إنها التأثيرات الجانبية للدواء، وقد وعدني الطبيب بأن يخفف الدواء المسبِّب لها في الزيارات القادمة.
واسترسل بحديث تقطر منه الكآبة عن جدوى الحياة.
قال لي: أحسُّ أن أشياء كثيرة تنقصنا، وأن المحسنين قاموا بسداد ما تراكم عليّ من ديون.
بعد أكثر من أسبوعين عرفت أن حالة اكتئاب شديدة قد أصابته، وحدثتني عيناه المفزوعتان القلقتان عن أحزان تتسع لهذا الكون، أما شحوب وجهه، وهزال جسده، فسببا لي الكثير من الألم، حتى كدت أبكي مع بكائه المتتالي وهو يتحدث عن همومه، وهموم العالم الذي يعيش فيه.
مضيت معه وبصحبة زوجته إلى الطبيب الذي أصرَّ علينا بأنه سيسعى لتدبير ذلك الدواء له، وقال لي إنه يريحه ولا بد من أن يتناوله مدى حياته حتى لا تأتيه هجمة هلوسة شديدة كهذه مرة أخرى، وناولني تقريراً طبياً كتب فيه:
(إلى من يهمه الأمر)
راجعني السيد فلان بن فلان، عمره كذا، رقم هويته كذا، وبعد الفحص تأكد لي أنه يعاني من هجمة هلوسة شديدة، (وسمى المرض وأعراضه)، ثم ذيَّل التقرير:
المريض بحاجة إلى استراحة طويلة تستغرق بضعة شهور، وأقترح أن يحال إلى لجنة طبية تمنحه تسريحاً صحياً من العمل.
وهكذا إذاً بين الاكتئاب والهلوسة يحال معوق جديد إلى بطالة دائمة، عبء جديد على المجتمع، ولكني لم أرض بذلك الوضع، فمضيت إلى أستاذ جامعي مختص بعلم النفس والمعالجة النفسية، وشرحت له حال صاحبنا، مضينا جميعاً إلى منزله، وهناك التقاه، وتأكد من وضعه ووعدني بأن يسعى إلى تأمين الدواء له من خلال مؤسسة تهتم بشؤون مماثلة لإعاقته.
إنها يد الخير والأمان، يد ذلك الأستاذ الجامعي التي وفّرت الدواء لذلك المريض.. فلان بن فلان، ولم يقف الأمر عند ذلك، لكن مساعدة مالية جعلت بيته يزدهر بالفرح والحبور، وطابت حياته، وأخذ يسترد ما افتقد من جسمه يوماً بعد يوم، وعلت الضحكات في جنبات البيت الذي كان ركناً مظلماً حزيناً.
قال لي ذاك الأستاذ الجامعي: ليست مهمتنا أن نورّد إعاقات جديدة إلى المجتمع، وليست مهمتنا أن نقدِّم صدقات وإحساناً إلى المعوقين، إن مهمتنا التي تمليها علينا تطورات هذا العصر، أن نعيد المعوق إلى المجتمع، ونعيد تأهيله وتثقيفه صحياً واجتماعياً، وبذلك ينال حقه في الحياة والعمل والثقافة والتعليم.
التفت إليّ الأستاذ الجامعي وقال: انظري ما أثبت قدميه على الأرض..؟
هل نستطيع أن نجعل أقداماً أخرى كثيرة أثبت على الأرض؟
ما مسؤوليتنا تجاه مجتمعنا؟ كيف نحميه من إعاقات تأكل أخضره ويابسه؟
أسئلة تحتاج إلى إجابات صريحة وواضحة؟ لا يمكن أن نجيب عليها إلا بتعاون مثمر وعمل دؤوب مخلص وقبل ذلك نيَّة صادقة في تحقيق الخير للإنسان وصلاح المجتمع؟
نسأل المولى سبحانه أن يهب الجميع العافية والسلامة، وبالله التوفيق..
الرياض - فاكس: 014803452
|