صغيرتي هيلينا
ضعي أَناملَكِ جيدا على ما سأفتح لكِ من خارطةِ الذاكرةِ البصرية التي تختنق بها أعصابُ مُخِّي المُتورِّمة؛ لكي تعرفي أنّكِ محظوظة، وأنّ الظلامَ أجملُ مشاعر الدنيا وأمانيها..
هيلينا
أشعر بكِ الآنَ قد وقعْتِ على مشهدي وأَنا دون السابعة أدور مع عنزتي حول أشرابِ البرسيم الأخضر في دائرة من طمأنينةِ بابا ورِضاهُ عن حُبِّي لها.. ندور وندور إلى أنْ دخلَتْ إلى أقصى شِربٍ، وأخْفَتْ عَينيها الدافئتين في كُومَةِ الأزهار البنفسجية الصغيرة التي احتشدتْ في رؤوس كل برسيمة طرية، وجعلتْ تقطف وتمضغ مُغلَقَةَ العينَين لا تُجيبُ على طَبطبتِي عليها.. وأظنُّها تتذكّر أُمّها التي افترسوها في إحدى ضيافاتهم قبلَ يومين..
لم أستطع أن أكون وحيدة، وهي حزينة، لا تشعر بي، ولا تريد أن تشعرَ بي، فحزنتُ، وأطرقتُ رأسِي قُربَها أتشمّم الأزهار البنفسجية، ووجدتها زكيّةً زكيّة، ووجدتُ مَشاعِرَ العَنزة تنمو في داخلي وتكبُرُ حتى احتوتني، فأطلتُ عنقي أبحثُ عن بابا إنْ كان رآني وسيُخاصمني.. وعلى الفور اشتملني رذاذُ رضا عينيه البعيدتين، فابتسمتُ له، وانحنيتُ بأمان.. وما ألذَّ تلك الزهرات التي بِتُّ وعنزتي - ونحنُ عائدون لمنازل القرية مع نُزولِ المغِيب- نتسابَق على إنهائها من رؤوس أعواد البرسيم ونحن مُتكوِّمَتينِ في صُندوقِ السيارة!
هيلينا
أعرف الآنَ -من أناملكِ- أَنَّكِ تحسدينني على هذه الذكرى البصريّة الدافئة والجميلة، وأنّكِ ستُحرِّكين أعصابَكِ لتفتحيْ صُندوق ذكرى مثلها. لكن، لا، يا هِيلينا.. لنْ تفعَلِي، ولنْ أترُكَكِ تفعلين هذا؛ كيلا تكرهِين العَمى؛ فهو أدفأ دِثارٍ لكِ من وَجَعِ الدنيا، أقصد من وَجَعِ أصحاب الدنيا الذين يملكون عشرات الوجوه تحتَ الوجه الذي تتحسّسينَه، يا مِسكينتي، حتى كلماتُهم تحتَها عشراتُ الكلمات التي لا تَسمحُ لأعصابِكِ أنْ تقرأها!
هيلينا
بابا مات!!
أَتودِّينَ أنْ تُبصري الموت؟!!
أَتودِّينَ أنْ تَرَيْ حبيبَكِ الذي أعشبَتْ رُوحُكِ من سَوسن صُلْبِهِ الطاهِرِ الدافئ يموت؟
أَتودِّيْنَ أنْ ينسلِخَ الإحساس عن أعصابِكِ، وعَيناهُ تَبيضَّانِ، تتقلَّبانِ للأعلى، وتَدخُلانِ كَيلا يُبصِرَكِ من جديد، وكيْ تلتحِمَ بمركب الروح اللّذيذة التي ستَترُككما وترحل.. وأنتِ تَجْرِينَ بماء الورد.. تَرُشِّينَهُ بهِ، تَسقينَهُ، تَرفعينَ صدرَهُ الذي باتَ ثقيلاً ثقيلا، وتَقولِينَ لهُ مَن أنتِ، ولا يَقول سِوى: إِنَّهُ يَطعَنُ هُنا وهُناكَ، يا ابنتِي؟
أَتَوَدِّيْنَ أنْ يَخْلُوَ وَجْهُكِ لِمَنْ يأكل فُنونَكِ الرَّقيقة، وَيشترِي ثناءَ الناسِ بإحسانِهِ إِليكِ، أيّتُها اليتيمةُ، وهو لا تَكُفُّ أَعصابُ عينيهِ تُعيِّرُكِ بأنَّ أَمِيْرَكِ قد ذهب؟
أَتودِّينَ أنْ تَسِيحي في زِئبَقِ العالَمِ مُفتِّشَةً عن عَينَين صامتَتينِ كالحُزنِ؟ وعن يَدَيْنِ شَريفَتينِ مَعكُوفَتَينِ التَهَمَتْ ماكينةُ الرِّزْقِ بعضَ أصابِعهما، وهما تُنقِّبانِ عن رِيالاتٍ تُدفؤكِ، وتُضحِكُكِ، وتحشُو عُودَكِ الذي لا يَكُفُّ عن النّمو الذي يتّسعُ فراغُه باستمرار؟!
أَتَودِّينَ أنْ تستجدِي عَينًا تدلُّكِ على أحدِ أشباهِ عَينيهِ الأربعين، إنْ بقِيَ منها باقية، أو أنّهُ آخرها؟!
أَتُريدينَ أنْ تُصابِي بالكُساحِ - مثلي- فلا تُفارِقينَ ذكرى تلكَ اللحظةِ والعينينِ المُبيَضَّتَين؟
هيلينا
لَمْ أعرِف شيئًا مما رأيتُ سِوى تلكَ الليلة، سوَى في عَينَيْ بابا، ولمَّا يُفارِقْ بَصَرِي الذي تتحرَّقِينَ له!!
هيلينا
هَربتُ من قراءة كلماتِكِ سنينًا طويلة، لكنني لم أستطع اليوم، فقد ذَكَرَكِ مَنْ لا أستطيعُ إهمالَه، ولا أستطيعُ عصيانَه، وأنا أختبِئُ في ظِلالِ عَينَيْهِ اللَّتَينِ تَرسُمانِ شيئًا اسمهُ (الإحسان)، وأظنُّكِ لا تعرفينهُ، يا هِيلِي؛ فأنا لم أتعرَّف عليهِ إلا قريبًا، وأخافُ ألاّ تنجح ذاكرة بصري في اختزانهِ، وفي زرع بذوره فيها.. كما كان بابا يزرعُ البرسيمَ الجميلَ الذي أذكر رائحتَهُ وطعمَهُ للآن!!
هيلينا
لو كان البصر رؤيةَ عينٍ فقط، لكُنتُ أوَّلَ مَنْ فقَأَ عَينيهِ بعد وفاةِ بابا، لكنَّهُ شيءٌ في الرُّوح، في أنامِل الرُّوحِ يزورُ بابا بينَ وقتٍ وآخر، وينعَمُ بتقبيلِ جبينِهِ الماهِرِ في الأمل، وأنفِهِ، ويديهِ، وقَدمَيْهِ اللَّتَيْنِ أشتاقُ لتدليكِهما، ليس بزيتِ الزّيتونِ الحارّ؛ كَي تحيا عُروقُها الغافِية. إنّما بجُؤجُؤَيْ عَينَيّ، فلا أثمَنَ منهما لقدمَيهِ، ولا أنعمَ، ولا أروى!
هيلينا
لو عادَ أبي سأُدلِّكُ قدمَيهِ بهما، فقد ترمَّدت عينايَ بعدَ رحيلهِ عنهما، وهَرِمَتا!
هيلينا
ستَشهدِينَ معيْ هذا الموقف، فأنا مُتأكِّدةٌ من ذلك، وستُحبينَ الصمت، والظلام، وأنْ تَبقَيْ وحيدةً -معَ دُميَتِكِ- تحتَ طَاوِلَةِ الكتُب؛ لأنَّ تلكَ الصّعقةَ المُضيئةَ شُحوبًا وَوَجعًا ستبقى تُحرِقُ أعصابَكِ مهما أغمضْتِ عينيكِ، مهما اقتلعْتِهما، مهما شطبتِ أعصابكِ الحِسيّة؛ لأنَّ الرُّوحَ مَن شاهَدها واختزنَها.. ستُحبّينَ صديقَيكِ الثَّقِيلينِ.. ومُتأكِّدةٌ من ذلكَ، يا هِلِي!
|