على الرغم من أننا أمة الوسطية، وأمة الحق والعدل، وأمة {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}، وأمة {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، أمة أنزل الله فيها قرآناً ضرب فيه المثل الأعلى على التعامل مع الخصم والصديق؛ إذ لا يوجد كتاب على الأرض سجل كلام أعدائه وأباطيلهم بأمانة كما سجل القرآن الكريم ما قال كفار قريش في حق نبي الإسلام ورسالته.. نعم أثبت نصوص أقوالهم.. وهذا توثيق علمي لكلام الغير، ثم رد عليهم بما يليق بهم. وكان بإمكان كتاب الله أن يكتفي بردوده على كفار قريش دون إثبات أقوالهم، وهو المصدق الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه.
فما بالنا نحن أمة هذا الميراث العظيم وأصحاب رسالة هذا الدين الإنساني العالمي، ورسالته خالدة ونبيه - صلى الله عليه وسلم - الصادق الأمين الذي قال فيه ربه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }.. ما بالنا إذا اختلفنا في رأي لا نحترم آراء بعضنا، ولا يعذر بعضنا بعضاً؟ ولماذا لا نعتبر رأي الآخر فينا وفيما نعتقد اجتهاداً قد يصح وقد يخطئ؟ لماذا نتهجم على من يختلف معنا في الرأي ونعتبر خلافه معنا خروجاً عن الحق وعداءً وكيداً مقصوداً؟ لماذا نتعامل بشعار الشيوعية الشهير: (إن لم تكن معي فأنت ضدي)؟!!
لماذا معاركنا الفكرية والأدبية تتحول إلى تجريح شخصي وتقليل من شأن الآخر، بل إلى سخرية من الذين نختلف معهم، ونحن أمة أمرها الله أن تدفع بالتي هي أحسن {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، وأمرنا أن نقول الحسنى للناس جميعاً مسلمين وغير مسلمين: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}.
هذا ميراث عظيم نصت عليه عقيدة الإسلام، فكان وساماً على صدر هذه الأمة في عز مجدها وأوج حضارتها، وكان سر تفوقها على سائر الأمم، وسر خلود تراثها وتاريخها؛ لهذا فإنني كلما قرأت خلافاً بين اثنين أو أكثر أو بين فئتين من أبناء هذه الأمة المسلمة حول قضية أدبية أو فكرية أو سياسية أو علمية ورأيت الخلاف فيها يخرج عن دائرة (الحوار) إلى ساحة (الخصام)، تذكرت سر تخلفنا عن الإسلام عقيدةً، والإسلام حضارةً، والإسلام علاقات إنسانية، وأننا لن نعود لنكون خير أمة أخرجت للناس إلا إذا عدنا إلى هذا الميراث السماوي العظيم الذي يعلمنا كل شيء في حياتنا، وفي مقدمتها تعاملنا مع غيرنا صديقاً وعدواً، بميزات العدل على السواء.
يجول بنفسي هذا الخاطر ويحزنني كلما رأيت خلافاً في الرأي بين اثنين في إحدى الصحف والمجلات، يتحول إلى (معركة) تستخدم فيها أسلحة لا تساعد على الفهم والتفاهم بين المختلفين.
وكان صدور كتاب (كلمات.. معارك أدبية ودراسات نقدية) لأخي العزيز الإعلامي المعروف الدكتور محمد عبدالله العوين أحد العوامل التي أعادت إلى ذهني هذا الخاطر المؤلم.. فقد وضع الصديق د. العوين في كتابه باباً لمعاركه الأدبية، خصصه لمقالاته وردوده في معركة الأدب الإسلامي التي دارت بينه وبين فضيلة الدكتور عبدالقدوس أبو صالح -رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية- مع ردود أخرى على الكاتبين الإسلاميين د. حسن الهويمل ود. عاصم حمدان.
وليس القصد من هذه المقدمة الطويلة أن كل عيوب الحوار والاختلاف التي ذكرتها تنطبق على ما كتبه الصديق العوين أو الذين ردوا عليه، وإن لم يبدأ من بعضها كل الذين شاركوا في هذا (الجدل) دون استثناء، وأسميه جدلاً لأنه لم يتم فيه التركيز على القضية الأساسية وهو (مفهوم الأدب الإسلامي)، وانصرف المختلفون إلى قضايا جانبية أدت إلى تعميق (سوء الفهم) وضياع فرصة (التفاهم)! وسيأتي تفصيل هذا.
وبقدر ما سعدت بجهد الأخ الصديق د. محمد العوين الذي يتمتع بأسلوب رصين وثقافة عربية إسلامية متينة فيما يكتبه من مقالات في الصحف والمجلات، هي أقرب إلى أسلوب الدراسات الواعية منها إلى أسلوب الصحافة العابرة.. سعدت بأن جمع هذا الجهد في كتاب استكمل به الجهد الذي بذله في مجموعة (عفو الخاطر) التي صدرت سنة 1412هـ. ولكن أحزنني - ولكل شيء إذا ما تم نقصان - عندما وضع مقاله وردوده على الغير في موضوع الأدب الإسلامي، ولم يضع مقالات الذين ردوا عليه، فوثق لمعركة من طرف واحد، والمعركة لا تكتمل إلا بالطرفين لكي يعين القارئ على أن يكون حكماً عدلاً، وفي هذا أنصاف لنفسه قبل أن يكون لغيره.. تمنيت.. وهذا حق التوثيق، وهو رجل أكاديمي.. إن لم يرد أن يورد النصوص كاملة في ملحق مستقل -وهذا الأفضل- أن يقتطف منها محاور الخلاف ويضمنها رده ويسجل في الهامش مكان وتاريخ نشر مقالات الذين ردوا عليه، فالقارئ لا يعرف من كتابه الذي رد فيه على فضيلة الدكتور أبو صالح مكان وتاريخ نشر هذا المقال حتى يسهل الرجوع إليه.. واضطررت للبحث عن مقال فضيلة الدكتور أبو صالح حتى عثرت عليه بعد جهد وقرأته على ضوء ما قرأت لأخي الدكتور العوين وكونت رأياً في هذه المعركة أرجو أن تتسع له (أستاذية) الدكتور عبدالقدوس أبو صالح بكل ما لها من أفضال على أبناء أكثر من جيل مثلي.. أرجو أن تتسع له (إخوة) الصديق د. محمد العوين و(إخلاصه) في اجتهاده، وهو ما سأطرحه الأسبوع القادم إن شاء الله.
|