لا توجد حيرة أكبر من حيرة قارئ تصطف أمامه طوابير أو صفوف من الكتب ، كلها بحاجة لمن يقرأ ويدقق في ما يقرأ ، وخلال ذلك وربما قبله يستمتع بما تراه عيناه ويحس به قلبه أو عاطفته أو نشوته ، لكن هذا القارئ ليس أكثر من عينين ، وبعض الناس يستعير عينين وهذا مهمته هو ومن يقرأ له أكثر مشقة وألماً.
لقد تعودت أن أتجول كل يوم في السوبر ماركت لاختيار الصحف ، وفي المنزل على الوقوف اسبوعياً أمام ممر وغرفتين ورف كامل في غرفة النوم ، أقف أمام كل هذه الكتب لاختار كتاباً أو كتابين ، لكنني في الغالب قد لا أقرأ أياً منهما ، لأدفن رأسي في كتاب ابن لحظته ، وهذا ما يجعلني بين وقت وآخر أقوم بترحيل من انتهت تأشيرته في غرفة النوم إلى مستقره ، لاستقدم مرشدين جدداً أتعلم على أيديهم الحرف بكافة أشكاله وألوانه!
لقد وجدت من تجاربي مع الكتب ، أن هناك من يجلس إلى الكتاب ساعة واحدة ، يقوم بعدها وقد انتهى من كافة الصفحات ، هذه الساعة يقابلها عند قارئ آخر أربع أو خمس ساعات متواصلة لقراءة نفس الكتاب ، بل إن هناك من تتضاعف هذه المدة لديه ، والفرق ليس في القراءة الجادة ، أو قراءة نقر العصافير ، لكن الفرق هو في طريقة القراءة ، هناك من يقرأ وكأنه يستمع إلى سمفونية هادئة ورقيقة ، وهناك من يجلس أمام الكتاب وكأنه جالس أمام تنور ، وهناك من يجلس أمامه وكأنه جالس أمام أحد الحكماء ، حيث الإنصات الجيد والتهميش وكتابة الملاحظات ، كل شخص الآن يقرأ الكتاب بطريقته الخاصة ، كل هذا ليس مهماً ، المهم في النهاية ماذا أضاف الكتاب لقارئه؟
وحتى يضيف الكتاب إلى قارئه شيئاً ، فإن هناك العديد من الشروط ، فليس كل كتاب يليق بالقارئ ، وليس كل قارئ يليق بأي كتاب ، فالكتب مثل الغذاء ، فهناك أناس لا تطيق أمعاؤهم الفول والطعمية ، وهناك أناس لا تطيق أمعاؤهم الوجبات الدسمة ، وهناك أناس يموتون في الأكلات السريعة ، لذلك من الضروري أن لا يقبل المرء على كتاب لا يدخل إلى نفسه ، حتى وإن تعلق الأمر بطريقة طباعة أو تجليد الكتاب.. القارئ المتذوق يقلب الكتاب ، يتفقد صفحاته ، غلافه ، فهرسه ، وقبل ذلك سنة طبعه ومؤلفه ، ثم يشتريه أو يضعه على رفه ، ويحتفظ بنقوده لنفسه ، أما إذا أعجبه فإنه يأخذه على عجل وقد لا يفاصل أو يدقق في قيمته ، وهو حالما يصل إلى المنزل يشرع في القراءة صفحة من هنا وصفحة من هناك ، منتظراً بفارغ الصبر الوقت المناسب لالتهام صفحات الكتاب ، قارئ مثل هذا تجده يجود بماله لمن يطلبه لكنه لا يجود بكتاب قيمته عشرة ريالات!
أن التعود على القراءة الحرة ، كفيل بخلق جيل من الشباب ، قادر على أن يشق طريقه في الحياة دون عقد أو مصاعب ، فكل كتاب جيد هو بمثابة مصباح ينير الطريق عبر ظلمات أو تصاريف الحياة اليومية ، إضافة إلى أن القراءة توسع المدارك ، وتفتح العديد من المجالات أمام أبنائنا وبناتنا.. إننا بحاجة إلى الالتفات نحو القراءة ، بكافة أشكالها وألوانها وتخصصاتها ، قراءة مفتوحة على كل شيء ، وبأرخص الأثمان.
إن الدول الراقية تدعم الكتاب والمكتبات العامة بدون حدود ، بل إن بعض الدول العربية أصبحت تشتري حقوق طبعة واحدة ، من أبرز الكتب العربية والمترجمة ، ثم تطبعها على نفقتها الخاصة ، وتوزعها عبر المكتبات والمدارس والجامعات بأسعار رمزية ، لخلق جيل يقرأ ويختار ما يقرأ ، وبعد ذلك كله يخرج بنتيجة مما يقرأ.
أن وسائل الاتصالات اتسعت وتشعبت ، لكن الكتاب وحده ما زال يتسيد الوجدان والعين ، وهو الصديق الوحيد الذي لا تجد بُدّاً من صداقته ، وأنت سعيد وممتن لمثل هذا القرار.
فاكس 014533173
|