عندما تقرأ قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} وقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}.
أقول: عندما تقرأ هذه الآيات وغيرها من آيات القرآن الكريم التي ذكر فيها العرش والكرسي، هل تقف متأمِّلاً، وتسائل نفسك: ما حجم الكرسي يا تُرى؟ ، وما حجم العرش؟
وهل لهما من وصفٍ ورد في كتاب أو سنةٍ يبيِّن حجمها، وموقعها، ويقرِّب إلى الناس صورتهما؟
الذي يبدو، أننا نقرأ القرآن - غالباً - بالعادة، فنحن نحفظ آياته، ونتلوها ونسمعها من القرَّاء، وفي الصلوات، والمناسبات، ولكنَّنا لا نقف للتأمُّل والتدبُّر في معانيها إلا قليلاً، ولذلك تفوت علينا معانٍ كثيرة، وأوصاف عجيبة، تدلُّ على عظمة الخالق، وبدائع المخلوقات. قد يصل الغرور بالإنسان إلى درجة الغفلة عمَّا هو أعظم منه خَلْقاً، وأشدُّ منه بأساً، وأعلى منه مكانة.
إنَّ الغفلةَ دائرةٌ ضبابية تنعدم معها الرؤية الصحيحة، ويضيع في ضبابيّتها العقل، ويتيه القلب، حتى يقول الإنسان الضعيف: (أنا ربكم الأعلى)، ويردّد في سَكْرةٍ قاتلة: (ما لكم من إله غيري)، ويُطْلِقُ كلمة الكفر المهلكة دون خوفٍ أو وجل: {إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}. هكذا تهدم الغفلة عقل الإنسان وقلبه، وتشغله بتوافه الأمور عن عظمائها، وتسلبه صفة التفكير السليم، والرؤية الصائبة، فيستحق أنْ يوصف بالجهل بالرغم من اتساع ثقافته الدنيوية التي يتباهى بها أمام الناس، ويظلُّ يهبط ويهبط من حيث يظنُّ أنَّه يعلو، حتى يستعيذ منه الحضيض، وتشمئزَّ منه المَذَلَّة، وتملَّ من غفلته الغفلة. وكم من مسلمٍ نال حظاً وافراً من علوم الدنيا منتفخ الأَوداج كبراً وبطراً، لو سألته عن تفسير آيةٍ واضحة من آيات القرآن الكريم، لانغمس أمامك في مستنقع من الحيرة والاضطراب، وحدَّق في وجهك بعينين تائهتين تقولان لك: هاهـ.. هاهـ.. لا أدري. ما حجم عرش ربِّنا عزَّ وجل، وما صفتُه؟
قال العباس بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - كنَّا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فمرَّتْ سحابة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: أتدرون ما هذا؟ قلنا: السحاب. قال: والمُزْن، قلنا: والمزن. قال: والعِنان، قال فسكتنا، فقال: هل تدرون كم بين السماء والأرض، قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مَسيرة خمسمائة سنة، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكَثْفُ كلِّ سماءٍ مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بَحْرٌ بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهنَّ وأظلافهنَّ كما بين السماء والأرض، ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء) أخرجه الإمام أحمد في مسنده الحديث رقم (1770) الجزء الأول من حديث العباس بن عبدالمطلب.
أرأيتم؟!
أوصاف عجيبة، وعالَمٌ فسيحٌ، وكون تتقاصر عن إدراك أسراره عقول البشر. بين كلِّ سماءٍ وسماء (خمسمائة عام)، ومثلُها بين الأرض والسماء، ولنا أن نتأمَّل هذه الفضاءات الواسعة التي لا تحيط بها معرفتنا بين الأرض التي نعيش فيها والسماء الدنيا التي نراها، فضاءات ترجع عنها أبصارنا كليلة، وتتيه فيها مخترعات العصر الحديث من طائرات وصواريخ، وأقمار صناعية، ومراكب فضائية، حتى تصبح هذه المخترعات بالرغم من طاقاتها الهائلة تائهةً حائرةً في تلك الآفاق العظيمة، لقد هيَّأ الله للإنسان من وسائل العلم الحديث أشياء عجيبة، وفتح أمامه آفاقاً رَحْبَةً من الاكتشافات المذهلة، ومع ذلك فإنه عاجز - عجزاً تاماً - عن الوصول إلى الأَبعاد النهائية لجزءٍ من هذه الفضاءات الرحبة بين السماء والأرض.
أيها الإنسان المسلم المؤمن بربه لا تخف من هَيْلمان طُغاة هذا العصر، وضجيج آلاتهم، فإنهم كالذرَّة التائهة في ملكوت رب العالمين.
إشارة: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}
|