عاب الدكتور الاستاذ طه حسين على الشاعر العربي أحمد بن الحسين المتنبىء تكسبه بالشعر فيما عاب فيه. إذا كنا لا نبلغ المستوى الثقافي الذي يجعلنا ننقد قول عميد الادب العربي في حكمه على الشاعر المتنبىء أو نقده، أو نرده، فان لنا الحق كل الحق في التماس العذر للشاعر أبي الطيب المعروف بالمتنبىء، إذا كان العذر يحتاج التماسا فيما أعطاه للمديح من شعره.
ورد في ص 104 من الجزء الأول لكتاب وفيات الاعيان لابن خلكان ما يلي: (قال أبو الفتح بن جني النحوي: كنت قرأت ديوان أبي الطيب المتنبىء عليه، فقرأت عليه قوله في كافور القصيدة التي أولها:
|
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب |
حتى بلغت إلى قوله:
|
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة
ولا أشتكي فيها ولا أتعتب
وبي ما يذود الشعر عني أقله
ولكن قلبي يا ابنة القوم قلب |
فقلت له: يعز علي، كيف يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة؟ فقال: حذرناه وأنذرناه فما نفع! ألست القائل فيه:
|
أخا الجود أعط الناس ما أنت مالك
ولا تعطين الناس ما أنا قائل |
فهو الذي أعطاني كافوراً بسوء تدبره، وقلة تمييزه! هذا في تحول المتنبىء من ممدوح إلى ممدوح آخر!
ويذكر ابن خلكان ان المتنبىء خرج إلى مصر ومدح كافوراً، ثم رحل وقصد بلاد فارس، ومدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي فأجزل له جائزته، ولما رجع من عنده قاصداً بغداد ثم الكوفة عرض له فاتك بن ابي الجهل الاسدي في عدة من اصحابه، فقتل المتنبىء، وكان ذلك في شهر رمضان 354هـ، وقد التمس له الشاعر عبدالجليل بن وهبون الاندلسي العذر أو علل جودة مدائحه في جزالة العطايا:
|
لئن جاد شعر ابن الحسين فانما
تجيد العطايا واللها تفتح اللها |
وليس المتنىء الشاعر العربي الوحيد الذي تكسب بالشعر، فالمديح كما يعلم الدكتور طه حسين باب من أبواب ديوان كل شاعر عربي، في عصر المتنبىء وما قبله، وما بعده! فديوان الشاعر يرتب على أغراض الشعر كالمديح والهجاء والفخر والرثاء، أو يرتب على القوافي، وقد يرتب على الاغراض مرة ويرتب مرة أخرى على القوافي ديوان الشاعر الواحد! وحتى الشعراء المتأخرون أمثال شوقي وحافظ ابراهيم واسماعيل صبري يكثر المديح في شعرهم، ومع ذلك فان شوقي يقال له: أمير الشعراء، وحافظ يقال له: شاعر النيل، والظروف التي عاشها الشاعر والبيئة التي تأثر بها، هي التي تتحكم في أغراض شعره!
وماذا يريد الدكتور طه حسين من شاعر كالمتنبىء؟ هل يريد أن يثقب اللؤلؤ صناعة له يتخذ منها رزقه؟ ومع ذلك فقد قيل: ان المتنبىء كان يسعى للحصول على امارة! ولكنه لم يحظ بما طلبت نفسه وتطلعت اليه لقمته! بل اتهم (بجنون العظمة) فلم ينصف، فيقال بأنه كان عالي الهمة، أو أنه كان يطلب منصباً يعيش على مرتبه، وقد قتل دون أن يحصل على أمنيته!
وبعدُ، فليس لدينا ما نضعه بين يدي من قرأ كلام الدكتور طه حسين المنشور بجريدة الرياض في شهر رمضان 1391هـ عن المديح عند المتنبىء وتكسبه بالشعر غير هذا الكلام، أما من أراد أن يعرف مكانة المتنبىء بين شعراء العربية فعليه أن يرجع إلى ما كتبه ابن خلكان عنه في ص 102 من كتابه وفيات الاعيان الجزء الأول، بل عليه أن يقرأ ديوان الشاعر المتنبىء، أو يعيد قراءته إذا كان سبق أن قرأه، ليعرف مكانة الشاعر من شعره ومما كتب عنه. والمتنبىء قد لام نفسه في آماله قبل أن يلومه الدكتور طه حسين بألف عام اسمعه يقول:
|
لست الملوم أنا الملوم لانني
أنزلت آمالي بغير الخالق |
ومن الانصاف للشاعر المتنبىء أن تدرس مدائحه من حيث جودتها، وليس من الانصاف اعتبار المديح من عيوب شعر المتنبىء.
وتحية للدكتور طه حسين في ذكرى ميلاده الثاني والثمانين، دون قرع الطبول، ولا ضرب الدفوف ولا تنغيم المزامير، فالمجتمع في مصر مشغول باحتلال اسرائيل للاراضي المصرية، والاراضي العربية لا باقامة الحفلات الكبيرة والصغيرة للمفكرين الذين لا تشغلهم قضايا الساعة كقضية فلسطين! التي لم تحظ باهتمام الدكتور طه حسين.. ولا حرج عليه إذا لم يقحم نفسه في معمعة الجهاد! وان كان في استطاعته ان يجاهد بفكره، مع أن الدكتور طه حسين كان من رجال السياسة في مصر، يوم كانت الاحزاب في مصر تتنافس على الحكم.
| 
"زمان الجزيرة"