يشتد اللغط حيناً، وحيناً آخر يرتدّ إلى مستَوى الهمس حول مصطلح (الإصلاح الداخلي)، مفهوماً وغايةً وآلية أداء، وليس في هذا الجدل من عِوَج ولا خَلَل، فالإصلاح، أو (تطوير) مسارات الشأن الداخلي، اقتصاداً وتربيةً وإدارةً وثقافةً ومجتمعاً، أمرٌ مشروعٌ ومطلوبٌ وطنياً وتنموياً، تبنَّتْه القيادة السياسية ودعتْ إليه ومارسَته منذ حين، وهو قبل هذا وبعده لم يأتِ إملاءً من أحد، أو تجْسيداً لرغبةِ أحدٍ، كائناً من كان!
***
* غير أن الملاحظَ أنّ هناك أفراداً وجماعاتٍ داخل هذه البلاد وخارجها يظنّون أحياناً ظناً لا يستندُ إلى يقين، ولا يسْتضِيء بحكمة، ولا يقومُ على دليل، يزعمُ أن التغييرَ أو التطويرَ أو الإصلاحَ المنشودَ نشَأ (تنَاغُماً) مع تراكمَات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، واستجابةً لبعض تداعياتها، بل قد لا يتَوانى البعضُ من هؤلاء عن القول بأنّ ما حَدَث ويحدث من (تغيير) في الشأن المحلي ربما نشَأَ تحقيقاً لرغبةِ هذه القوة السياسية أو تلك النخبة المتنفّذة خارجَ الحدود, ممَنْ لعبَ أفرادُها ويلعبوُن ادْواراً معيّنةً تدور في فلك أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، تأثُّراً وتأثيراً!
***
* وتعليقاً على هذا اللغطِ المهموسِ منه والمعْلنِ، استأذنُ القارئَ الكريم بطرح المداخلة التالية:
أولاً: لا أشكّ لحظةً واحدةً في أنَّ هناك حاجةً ملحّةً لأخْضَاع كثير من ظواهرنا التنموية بكل أطيافها ومضَامينها للدراسة المتأنيّة، تشْخِيصاً لهذه الظواهر، وبحثاً عن الحلول الملائمة لاحتواء سلبيّاتها، حتى يتمَكّنَ مجتمعُنا من اللّحاق بركب الحضَارة العالمية، دونَ تفريطٍ بمُثُلِه وثَوابِتِه العليا، ولا إفراطٍ في رفْض (نسمات التغيير) التي توحي بها تراكُماتُ النمو الداخلي، وتمليها تداعَياتُ التفاعل الدولي القَائِم والقَادِم بين المملكة ودول العالم، شعوباً وحكومات!
***
* ثانياً: إذا سلّمنا بصحّة الرؤية السابقة، فإنني لا أجد سبباً واحداً يرغم أحداً منّا على الرّبط بين حّاجتنا للتشخيص والعلاج للعديد من أوضاعنا، وبين (سيناريوهات) الموقف الأمريكي أو الأوروبي الراهن، المعلن عنه، والمستتر، كي لا يبْدوَ وكأنّ بلادنا ترومُ (التغيير) استجابةً لضغوطٍ خارجية، وليَس لقناعةٍ ذاتيةٍ نابعةٍ من أعمَاق مصْلحِتها الوطنيّة بأهميّة التغيير واعتبَاره مطْلباً ملحّاً نشأ في (رحم) الوجدان الوطني العام قبل سنين سبَقَت كارثةَ الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وترجَمَ نفسَه على نحوٍ أو آخر، بأكثر من صورة ومثال!
***
ثالثاً : وبمعنَى أدقّ، لا أرى مصْلحةً أبداً في خَلْق (جسْرٍ وهميّ) يربط بين (سلوكيات) (الآخر) السياسي، ما ظهر منها وما بطن، وبين جهود بلادنا في مجال التطوير والتغيير الداخلي، وكأنّ مخرْجَاتِ ذلك الوهم (سببٌ)، ونشُوءَ التغيير المنشودِ (نتيجة)!
***
رابعاً: أودّ التأكيد هنا على أن أيّ تغيير ينشُدُه وُلاةُ أمرنا ونتطلع إليه نحن أهل هذه البلاد يسْتَمدّ شرعيتَه ومضمونَه وأداتَه من الداخل، وليس وحياً يُوحي من الخارج، تسليماً بقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (11) سورة الرعد، ومن ثم، فالتغييرُ في بلادنا شأن داخليّ نبتغيه لما نرومُ فيه من صَلاَح للبلاد والعباد، ولا نسْعى إليه إرضَاءً لهذه الدولة أو ذلك التكتّل خَارجَ حدودنا!
***
خامساً: أتفقُ مع ما يدْعُو إليه البعضُ من ضرُورة تكوين بنيَْةٍ بحثية مؤهلة لدراسة وتشخيص إيقاع نموّنا الراهن, والمشْكلاتِ التي تُحبِطُ أو تعوُقُ إنْجازَه، ومن ثم، اقتراحُ برامج إستراتيجيةٍ بعيدة المدى لتقْويم أدائنا العام، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وتربوياً، في ضوء تطلعاتنا وأحلامنا، وإمكاناتنا ومواردنا المتاحة.
***
سادساً: وأخيراً، إنّ خيَر (نصيحة) يرفعها مخْلصٌ لهذا البلد إلى وليّ أمره هي توظيفُ اهتَمامنا، حُكَّاماً ومحكُومين، وكلّ مَواردنا وطَاقاتِنا، ماديةً ومعنويةً، لتقْويم وتْطوير حرَاكِنا التنموي، لأَنَّ صَلاحَ أمْرنا على هذا الصعيد سيصْرفُ عنّا بإذن الله فِتَن الداخل، ما ظَهَر منها وما بَطَن، وسيُخْرسُ الألْسنَ والأقلامَ المتربَّصةَ بنا خارجياً، وسيَجْعلنا بحول الله أمةً أكثرَ حضُوراً وأعزَّ شأنا!
|