تضمَّنت الحلقة السابقة إشارات إلى ما حلَّ في العراق من نكبات كانت نتائجها مكاسب للصهاينة. واختُتمت تلك الحلقة بالإشارة إلى بداية تسلل نشاط الموساد الصهيونية إلى الشمال العراقي، والإشارة إلى سوء حظ العراق - بل والأمة العربية - بوصول صدام حسين إلى قمة هرم السلطة في بلاد الرافدين.
اتَّبع صدام حسين سياسة رعناء، سواء في تعامله مع شعبه أو مع الدول الأخرى. أما تعامله مع شعبه فكان طابعه البطش والقسوة. وهذا ما جعل حياة مواطنيه ملؤها الخوف بدلاً من الثقة التي يمكن - إذا توافرت - أن تصد كل الأخطار المحيطة بالبلاد. وأما تعامله مع الدول الأخرى فكان من أوضح مظاهر رعونته دخوله في حرب مع إيران، تلك الحرب التي كان في طليعة المحرِّضين عليها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
وكانت مدمِّرة للبلدين الجارين المتحاربين، أنفساً وأموالاً، كما كانت ضارة ضرراً بليغاً لدول الخليج العربية، وبخاصة المملكة العربية السعودية والكويت، من الناحية الاقتصادية.
وما إن انتهت تلك الحرب، وظن أبناء المنطقة أنهم تنفسوا الصعداء، حتى ارتكب ذلك الأرعن، سياسياً، جريمة احتلال الكويت، التي كان من نتائجها تكبد دول الخليج العربية خسائر مالية فادحة، وتمهد الطريق أمام الولايات المتحدة الأمريكية، حليفة الكيان الصهيوني المخلصة، بالذات لترسخ وجودها في المنطقة. وكان من نتائجها المهمة جداً بالنسبة لذلك الكيان أن قضي على قوة العراق، التي كانت الخطر الاستراتيجي الحقيقي عليه، كما ذكر وزير الخارجية الأمريكي حينذاك، جيمس بيكر، في مذكراته، ليس هذا فحسب، بل إن أمريكا - ومعها بريطانيا - جعلت من شمال العراق وجنوبه منطقتين لا تملك الحكومة العراقية المركزية حرية التصرف فيهما. وإذا كان تسلل نشاط الموساد إلى الشمال العراقي قد بدأ من عام 1968م فإن هذا النشاط تكثف نتيجة خروج تلك المنطقة عن السلطة التامة للحكومة المركزية.
ومضى عقد من الزمن على إخراج قوات صدام من الكويت، وتدمير قوة العراق العسكرية، والقضاء على كثير من بنيتها الأساسية، وعانى شعبها المبتلى ما عانى من ضيق ونكبات نتيجة الحصار المفروض عليه. ورأت الحكومة الأمريكية ان الظروف قد أصبحت مناسبة لاحتلال العراق، مدَّعية ادِّعاءات كان الكثيرون يعرفون كذبها، واتَّضح للجميع - فيما بعد - هذا الكذب. وكان ذلك الاحتلال - كما قال رئيس الأركان الأمريكي نفسه - لمصلحة إسرائيل. فما مظاهر هذه المصلحة، التي هي مكاسب وأيُّ مكاسب للكيان الصهيوني؟
من تلك المظاهر، أو المكاسب، إكمال المهمة المتصلة بالقضاء على القوة العسكرية العراقية، وذلك بحل الجيش العراقي، وتدمير معداته بحيث قُطِّعت دباباته إرباً لتباع حديداً (خردة) داخل العراق وخارجها، ومن تلك المكاسب القضاء على البنية العلمية الحربية العراقية المتمثلة في علماء العراق التقنيين، الذين كان لهم دور عظيم في إيصال الصناعة الحربية في ذلك القطر إلى ما وصلت إليه من تقدم. لقد قامت الموساد - قبل الاحتلال الأمريكي للعراق - باغتيال عدد من أولئك العلماء في مناطق مختلفة من العالم. وأتى الاحتلال الأمريكي ليسهل مهمَّة رجال الموساد في تنفيذ مخططاتهم الإجرامية.
فقد دخلت مع قوات الاحتلال الأمريكي عصابة صهيونية من 150 شخصاً مدربين على الاغتيالات، ومتكلمين للغة العربية, وكانت مهمتهم اغتيال العلماء العراقيين، وبخاصة أولئك الذين كان لهم دور في التصنيع الحربي والتقدم التقني. وقد زودوا بخرائط خاصة - جزء منها وصلت إلى الكيان الصهيوني عن طريق بعض أفراد هيئة المفتشين الدوليين (الانموفيك) عن سكن هؤلاء العلماء وأمكنة وجودهم المختلفة.
ومن مكاسب الصهاينة في العراق - نتيجة الاحتلال بزعامة أمريكا - أنهم تمكنوا من إقامة قواعد في شمال العراق من أبرز مهماتها التجسس على البرنامج النووي الإيراني، وتعزيز التوجه الانفصالي للأكراد عن الحكم العراقي المركزي.
ومن تلك المكاسب العظيمة للصهاينة في العراق نهبهم ما استطاعوا نهبه من تراث العراق، ولا سيما ما كان يوجد في متاحفها الغنية. ومن ذلك أن المحتلين الأمريكيين اهتدوا إلى ما كان مودعاً في قبو أسفل قاعات المتحف العراقي مشتملاً على كنوز أثرية لا تقدر بثمن عن الحضارة البابلية والسبي اليهودي. وقد نقل بعض تلك الكنوز مع وثائق ذات صلة بممتلكات اليهود المحدثين والمعاصرين - على متن طائرة أمريكية خاصة إلى مطار بن جوريون الصهويني في فلسطين المحتلة.
ومن مكاسب الصهاينة في العراق، أيضاً، انفتاح الطريق أمامهم لشراء العقارات والأراضي, وهناك روايات توضح أن فئات منهم بدأت تمهِّد لتكوين مستوطنات غرب نهر الفرات، استباقاً لتحقيق حلمهم المشهور في إقامة دولتهم من النيل إلى الفرات. ومن تلك المكاسب قيام شركات صهيونية أمنية وتجارية، بعضها مستقل وبعضها الآخر بالاشتراك مع شركات من جنسيات أخرى. ومما حققته إبرام وزارة الدفاع الأمريكية صفقة معها بأكثر من أربع مئة مليون دولار، وتصدير الكيان الصهيوني إلى العراق سلعاً غذائية وألعاب أطفال بمئات الملايين من الدولارات. بل إن مديرة سجن أبو غريب، الذي شهد أبشع جرائم التعذيب، صرحت ان محققين إسرائيليين اشتركوا في التحقيقات مع المعتقلين العراقيين في ذلك السجن.
ذلك بعض ما ظهر لكاتب هذه السطور من مكاسب الصهاينة في العراق، وما خفي عن معرفته المحدودة قد يكون أدهى وأعظم.. والله المستعان.
|