قضية الهوية والانتماء العربي، أو العروبي، هي من القضايا التي مازالت محل قلق معرفي في الذهنية العربية على وجه التحديد، فالعروبة لم تطرح في تاريخها على أنها قومية بمعنى NATION إنما كانت تطرح على اعتبارها عرقا أحيانا، أو اثنية كما في المفهوم الانثربولوجي.. جاء في لسان العرب المحيط تحت مادة (عرب) ما يلي: (العُرْبُ والعربُ جيل من الناس معروف، خلافُ العجم). واللغة شرط ضرورة في النسبة إلى العرب؛ إذ لا يمكن تصور عربياً قحاً لا يتكلم العربية؛ لذلك فإن المتحدث عندما يفصحُ عن مراده بالقول، يكون قد (أعرب) عما يريد أن يقوله، أي أوضح وأبان. ولو عدنا إلى التاريخ القريب، وتحديداً إلى القرن التاسع عشر تحديداً، لوجدنا أن (العروبة) كمفهوم قومي طرحت أول ما طرحت في منتصف هذا القرن، وتفاعل معها (أهل الشام) خصوصاً، على اعتبار انها تعبير يقود إلى الرغبة في الاستقلال عن الاتراك ليس إلا. وعندما انهزمت الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وتوزعت ممتلكاتها العربية -كما يقول محمد عابد الجابري- بين امبراطوريتين استعماريتين: انكلترا وفرنسا، تحولت الفكرة القومية العربية إلى حركات وطنية استقلالية من المستعمر، ولم تتضمن هذه الحركات رغبة في التوحد والغاء التبعثر السياسي؛ لذلك أدى الاستقلال إلى تكريس وترسيخ الدولة (الوطن) على حساب دولة (الأمة) المنشودة التي بقيت مجرد أدبيات عاطفية تحملُ قيماً وشعارات ثقافية نخبوية طوباوية، لكنها كانت في الواقع عاجزة عن تشكيل ما يمكن أن يكون هيكلية بنيوية، أو نواة، لدولة وحدوية كبرى.
ورغم أن مطلب (الوحدة) بقي حاضراً وبقوة في الأدبيات العربية، إلا أنه لم يمنع الجزئية، أو كما يسمونها: القطرية، من التجذر والتشكل كواقع على الأرض يسمى (الوطن). والوطن بمفهومه السياسي والجغرافي والانتمائي يقف مع الفكرة القومية، وكذلك مع الفكرة الإسلامية، على الطرف النقيض. ورغم ذلك ظلت الهوية الوطنية والهوية القومية والهوية الإسلامية ثلاث هويات تتنازع الإنسان العربي المسلم، وتشتت انتماءه، فهو بين الولاء للوطن بحدوده السياسية، وبين الولاء للعروبة بمفهومها القومي، وبين الولاء لأمة الإسلام بمفهومها الأخوي، يعيش أشبه ما يكون بحالة (انشطار) بين ثلاث هويات، كل واحدة لها متطلبات تتناقض مع متطلبات الهوية الأخرى تناقضاً كاملاً، فالأخوة في الإسلام مثلا، تختلف عن الأخوة في الوطن والموطنة، ولايمكن الجمع بين هذه الانتماءات على درجة من التساوي إطلاقاً، وإنما بترتيبها على حسب الأولوية، والأولوية هنا تقضي بتفضيل إحداها على الأخرى لكي تستقيم في السياق.
ومهما حاول القوميون تجميل وتنميق فكرة (القومية العربية) بزخارف جذابة فإنها عجزت، وكما يقول التاريخ، عن تحقيق أي إنجاز على ارض الواقع من شأنه أن يثبت قدرة النظرية القومية العربية على التشكيل كأيديولوجيا، وبالتالي إمكانية هذه الأيديولوجيا على أن تكون وسيلة للإنسان العربي في تحقيق الآمال الوحدوية.. بل يمكن القول إن (القومية العربية) كطرح فكري وثقافي يتكىء على البعد التاريخي والثقافي، ويهمش التفاوت الاقتصادي والمصالح بين الدول الناطقة بالعربية، هو أس بلائنا، لا سيما بعد هذا الفشل التاريخي الذي تمثل في تجاربنا الوحدوية، والتي قامت على أساس شعارات قومية وحدوية ديماغوجية صرفة، بعيداً عن أي عوامل مصلحية مشتركة يمكن أن تشكل أساسا لهذه التجارب الوحدوية كالتجربة الوحدوية بين مصر وسوريا مثلاً، أو تجارب القذافي الوحدوية.
كل ما أريد أن أقوله في هذه العجالة هو أننا يجب أن نعيد النظر في كثير من (المسلمات) التي شكلت في الماضي ثقافتنا، وبنينا عليها وجودنا وهويتنا، فأورثتنا (التشتت) في الانتماء والولاء، حتى أصبح الدفاع عن (بيروت) مثلاً هو بالمعيار القومي تماماً كالدفاع عن (الرياض)، والدفاع عن (كابل) هو بالمعيار الإسلامي على القدر نفسه من الأهمية فيما لو تعرضت إحدى مدن المملكة لعدوان خارجي.
والسؤال: أمام هذا الواقع الثقافي والفكري المشتت، هل سيعيد تدريس مادة (الوطنية) لصغارنا ما افتقدناه نحن عندما جعلنا الانتماء للعروبة فوق الانتماء للوطن؟ سؤال أتمنى أن نجد الشجاعة والجرأة في الإجابة عليه.
|