تعد التربية من أشق المهمات التي يقوم بها البشر وأصعبها على نفوسهم لما تحتاجه من القدوة والصبر والمثابرة والحلم مع الرحمة، ولقد ضرب لنا معلمنا الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقى وأعظم المثل في تربيته لأمته تربية جمع فيها بين القدوة والصبر والحلم والرحمة والمثابرة، ربى بذلك أمة كاملة كانت آخر الأمم وأكبرها وأقواها، وقد نجح لأنه جمع مقومات التربية التي رباه عليها القرآن الكريم، فحين سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خُلق الرسول قالت: (كان خُلقه القرآن) فكان الترجمان الحي لفضائل القرآن والصورة المتحركة لتوجيهاته الخالدة وبذا ربى أمة احتواها بتلك الشخصية في حياته وبعد مماته، فكل موقف قام به في معاملاته كان نوراً ينساقون إليه ليضيء في نفوسهم أنبل العواطف وأقوى وأصدق السلوك وموقفه فيما عامل به الأعداء بعد النصر لأهل مكة الذين أسرفوا في إيذائه وأمضوا في اضطهاده وأخرجوه من بلده وتآمروا على قتله وقذفوه بكل بهتان وزور ليُظهر تلك الروح الكريمة التي سرت في أصحابه وأمته، فدخل مكة فاتحاً في جيشٍ كبيرٍ لم ترَ جزيرة العرب مثله والبلاد في رحمته يشملها عفوه والسادة الذين عتوا في الأرض يُجزون بالبر والإحسان ويعاملون بالعفو والصفح الجميل وحكام الأرض لا نعرف لأمثالهم غير قطع الرؤوس فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلاّ أن جمعهم وأمّنهم وقال لهم قولته الخالدة: ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
هذه الصورة العظيمة لنبينا الكريم تجسدت في ذاكرتي وأنا أسمع العفو الملكي عن الفئة المنحرفة فكرياً وفتح باب العفو لمدة شهر لمن يتوب ويُسلم نفسه للسلطة. إنه منتهى القدوة والحلم والعفو من المربي الوالد للولد المُشْفَق عليه حلم وعفو وتربية وسعة صدر من علو قادر لعضو منشق ضعيف ومنشق على هذا العلو القادر ومع ذلك يفتح له باب الأمل في التوبة والعودة إلى الحياة الكريمة.
تصوري يا نفس لو كان هذا العضو المنشق الضعيف انشقّ على علو في أحد البلدان غير علو هذه الأرض الطيبة المباركة فكيف كان سيواجه ويُربى؟ انها بلد الرسالة وبلد التوحيد وبلد المسجد الحرام خُطى الرسول وسيرته تعبق في أنحائه في كل مكان ومنارات تهفو إليها نفوس البشرية على هذه الأرض إن علت أو خفضت، فكلها على خُطى الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن الملك فهد بن عبدالعزيز بهذه المبادرة قد تكشفت كوامنه لنا وبرهن صادقاً بإذن الله أنه أبٌ يزهو به الأبناء الصالحون والفاسقون، أب مربٍ، أب قائد، أب للصغار والكبار.. إن الحنان والرفق والحب من أقوى العوامل للسيطرة على نفوس الأبناء وها هم هؤلاء الأبناء المنشقون قد بدؤوا يتوافدون حين فاحت لهم تلك الأبوة فشعروا بالندم لأنهم اكتشفوا إنما انشقوا عن طاعة أبيهم وعارضوا قلوباً تسعهم وعضواً يحبهم ويناديهم بعدما تاهوا في صحاري الضياع فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
فهل بعد ذلك يتكلم منا منشقٌ وهل بعد ذلك نفكر أن ننشق مرة أخرى.. ان سيرة العلماء الأفاضل الذين ولوا والذين بقوا وأيديهم في أيدي هذه الأسرة الكريمة لهي قدوة لنا في أن نعطي هذه الأسرة الكريمة قدرها وأن نعرف الفرق بين من يملك الشيء فيحتويه وبين من يحتوي الشيء حتى يملكه، إنه لفرق شاسع يا إخوتي فهل ندركه الآن؟.
دعاء صادق من أمٍ خائفة وأختٍ وجلة أن يديم الله هذه الأسرة الكريمة التي مكّنها الله من خدمة بيته الحرام العتيق الذي اعتقه الله من الجبابرة والفاسقين من أن ينالوه بشرٍ أو سوءٍ ولو كان ذلك بالنيّة إلاَّ أن يذيقهم الله من العذاب الأليم.
المشرفة التربوية- رئيسة وحدة التربية في تعليم البنات- جنوب |