عندما أرسلت طرفي ذات يومٍ في البقعة المحيطة بي من ذلك الوادي الأخضر الذي أديت فيه صلاة العصر، رأيت من المخلوقات الصغيرة في تلك البقعة المحصورة ما أثار عجبي وإعجابي، وذكَّرني بعظمة الخالق الذي يعلم السرَّ وأخفى، وأحاطت بي في تلك اللحظة دائرة من التفكير العميق حاصَرتْ ذهني حصاراً عجيباً، وأغرقتْني في بحر عميقٍ من التأمُّل في ملكوت الله.
بقعة صغيرة لا تشكّل في أرض الله الفسيحة إلا نقطةً صغيرةً، لو أمكن رسمها لما استطاعت العين المجردَّة أن تراها، ومع ذلك ففيها هذا العدد الهائل من مخلوقات الله.. حشرات مختلفة الأحجام والأشكال والألوان، بل إنَّ حشرةً واحدة منها تاهتْ في راحة يدي من شدَّة صغرها.. كانت تحمل ثلاثة ألوان موزَّعة على جِرمها الصغير على هيئة دوائر ذات تناسقٍ عجيب : اللون الأحمر والأصفر والأسود. سبحانك يا مبدع هذا الكون، يا من تقول للشيء: كن، فيكون.
ورحلت في دروب التأمُّل رحلةً شغلتني عن كل ما حولي، ثم فكَّرت في نسبة حجم إحدى هذه المخلوقات الصغيرة إذا قيست بجسم إنسان.. إنَّ أصغر إنسانٍ يَكْبُرها بمئات المرَّات، بل إنَّ موطئ قدم طفلٍ صغير يمكن أنْ يشكِّل مساحة مدينةٍ كبيرةٍ متراميةِ الأطراف بالنسبة إلى تلك المخلوقات! وشعرتُ في حينها بشيءٍ من القوةِ وأنا أرسم باصبعي خطوطاً وأخُدُّ أَخاديدَ في التراب لأرى كيف تعبرها تلك الحشرات العجيبة الغريبة، في محاولةٍ لتجاوزها، وكأني بها قد أُصيبتْ بالرُّعب والهَلَع حينما رأتْ اصبعي تمتدُّ لتخطَّ تلك الخطوط، ولربما قامت باستنفار قوات الطوارئ، والجيش الاحتياطي، وجهَّزتْ كلَّ ما تملك من المعدات الحربية لمواجهة هذا الكائن الضخم الذي يحفر الأرض بهذه الصورة العجيبة. إنَّ سبَّابة يدي اليُمْنى، هذه الاصبع الصغيرة كانت - كما بدا لي - شيئاً مخيفاً بالنسبة إلى تلك المخلوقات.
ثم شُغِلتُ عن النظر إلى تلك المخلوقات بمنظر الشمس التي مالت إلى الغروب محمرَّة الوجه، وكأنها قد جلستْ على قمة ذلك الجبل الكبير لتودِّع هذا الجزء من الكرة الأرضية حتى تعود إليه - بإذن الله - في يوم جديد.
لقد كانت رؤيتي للشمس على تلك الحالة نقلة كبيرة لذهني من عالم الأرض إلى عالم السماء، وتساءلتُ في حينها:
ما حجمي يا تُرى، بالقياس إلى هذا الكون الفسيح؟ وألقيت نظرةً أخرى إلى تلك المخلوقات الصغيرة في تلك البقعة المحصورة، فرأيتها بالنسبة إليَّ أكبر منِّي بالنسبة إلى الكون.
سبحان خالق هذا الكون!
وعندما رُفع أذان مغرب ذلك اليوم، اتجهت إلى المسجد، وكنتُ لا أزال داخلَ دائرة التأمُّل والتفكُّر في عظمة هذا الكون، وسمعت الإمام يقرأ آية الكرسي، وكأنني أسمعها لأول مرَّة، فقد حملتني إلى عوالم أخرى.
إنني أعرف الإمام جيِّداً، وأسمع صوته حين يتلو القرآن كثيراً، ولكنَّ أثر صوته - هذه المرة - كان عجيباً، وشعوري بمعاني الآيات كان عميقاً.{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}
الله أكبر، كم في تأمُّل معاني آيات القرآن من فضل عظيم!
إشارة
يارب ما حلَّ البلاء بنا
إلا بإعراضٍ وعصيان |
|