تعد قضية محاكمة الكاتب الإيراني آقاجاري مثال حي على منهج ما يطلق عليه في التاريخ الحديث بنظرية الأمن الفكري أو التفتيش الثقافي من خلال البحث بين السطور، أو النظر فيما وراء النصوص، ثم محاولة استخراج منها ما يطلق عليه بالتهم المعدة سلفاً ضد من يمثل خطراً على السلطة، فتهمته كانت الردة عن الدين الإسلامي، وعقابها كان الإعدام قبل أن يخفف مؤخراً إلى خمس سنوات يقضيها سجيناً وراء القضبان..
يرى المطلعون على نص المحاضرة التي خرج منها الدليل على كفره، خلوها من إشارة أو دليل على الخروج من الدين الإسلامي، وتنحصر تهمته في إهانته لعلماء الدين عندما نادى بضرورة التطوير و الخروج من التقليد، أو كما جاء على لسانه :(ليس على المسلمين أن يتبعوا رجل الدين بشكل أعمى).، وبما أن علماء الدين لهم المرجعية و السلطة العليا، كانت محاكمته من (باب) ما يطلق عليه الحفاظ على الأمن في الدولة أو سلطة رجال الدين، من خلال تطبيق فلسفة الأمن الفكري كخيار للحفاظ على المصالح إن صح التعبير، و المصالح كلمة فضفاضة لا تحمل في ظاهرها معاني أو مبادئ محددة، و لكن قد تعني في كثير من الأحيان المصالح الشخصية أو الفئوية، سواء ارتبطت بشعارات وطنية براقة أو أصول دينية،..
ارتبطت نظرية الأمن الفكري في تاريخ البشرية بأيدلوجيات غربت عنها شمس الحضارة إلى الأبد، وذلك عندما هوت النازية، واندثرت الشيوعية، وسقطت القومية، ووهنت النظريات السياسية التي تعتمد على استبداد (الإيديولوجية) السياسية، ودموية التفسيرات القمعية للنصوص الدينية، و جحيم المزايدات على ترديد الشعارات الوطنية في المحافل العامة، فلا يمكن بأي حال تهميش ما حدث للعقل البشري من تطور في وعيه وقدرته على فهم ما يجري في الواقع، وإن كان لا يزال يفتقد القدرة على الاستقلال بالرأي أو قبول الرأي المخالف، ومما يجعله عرضة للانسياق وراء صنّاع الأفكار المؤدلجة، والقادرة على استغلال عواطف العوام الدينية أو القومية للوصول إلى أهداف الرموز الذاتية أو الأنانية البحتة..
لكن لا يمكن صد ذلك التغلغل الفكري الجديد من خلال استراتيجية الأمن الفكري، والتي تؤدي في الغالب إلى فرض منهج واحد في كافة الميادين، في ميدان الفكر والسياسة والاجتماع والدولة، وعلاقات الناس، فتختزل كل التنوّع الموجود في المجتمع إلى نموذج ٍ واحد أو قاسم مشترك، ويؤدي العمل على فرض هذا الأسلوب إلى تفكيك المجتمع، وإنتاج الأفكار السرية المضادة للخطاب المعلن و المفروض قسراً..
والثقافة أو الاهتمام بالفكر وانبعاث الأفكار الجديدة هو في غالب الأحوال ردة فعل على ظاهرة فكرية أحادية، أو انشقاق عقدي أو مزايدات وطنية على شعارات مرفوعة ومبادئ معلنة على أنها الثوابت التي تأسست عليها الأمة أو الوطن..
جسدت المقولة الشهيرة التي أطلقها أدولف هتلر عام 1936: عندما أسمع كلمة ثقافة أشهر مسدّسي هاجس رعب المستبد من الفكر والثقافة، ورد عليه بعد ثلاثة عقود روبيرتو فيرنانديز ريتامار، في مؤتمر هافانا الثقافي المنعقد عام 1968 على هذا التأكيد الفاشي لكل عصر وزمان بتأكيد إنساني لكل عصر وزمان: عندما أسمع كلمة فاشي أشهر ثقافتي..، والمسدس هو رمز للحكم بالقوة، والتهديد بإحكام القبضة، وتكميم الأفواه، بينما تظل الكلمة والثقافة قلعة لا تنضب من قدراتها الأدبية و المعرفية على التصدي الدائم للاستبداد و القمع وإشهار المسدس ضد الجميع..
قد يعني ارتفاع نسب الاهتمام بالثقافة أو الأفكار الجديدة أو الاهتمام بانشقاق أيديولوجيات قديمة أو محاولة إعادة صياغتها على وجود أزمة أو صراع داخلي إن صحت الكلمة، وقد أثبتت فصول التاريخ الحديث أن السيف لا يمكن أن يكون أصدق من الكلمة إذا لم يرتبط حده الفاصل بتطبيق منهج الإصلاح وفصل السلطات، وأن المزايدة التاريخية، والإصرار على رفع مبادئ لم يعد لها تطبيقات على أرض الواقع، و فقدت قدرتها و تأثيرها في عقل الإنسان في القرن الجديد، ولم تعد تلائم متطلبات الدولة الحديثة أثبتت فشلها وقلة فعاليتها في منع انتشار الأفكار أو الثقافات الجديدة،وقد يؤدي ذلك التناقض إلى خروج فئات دموية عنيفة تطالب أو تزايد على مصداقية تطبيق الشعارات المعلنة..
الاقتصاد وارتفاع مؤشرات التنمية ومحاربة الفساد والتضخم الإداري والبيروقراطية عوامل في غاية الأهمية لضرب مصانع الأفكار الجديدة، لكن الأهم من ذلك احترام الرأي الآخر، وضمان قانون لحماية حرية التعبير التي لا تدعو إلى العنف و الجريمة، ولا تهاجم مسلمات الغالبية ولا حقوق الأقليات، لكن قادرة على الخروج أمام الجميع بمنتهى الشفافية والوضوح،..
والمجتمع المطمئن يرفض الفكر الذي يدعو إلى الجريمة والعنف والدموية، لكن يفقد طمأنينته تماماً إذا تم الإفراط الشديد في أنظمة الحماية الأمنية والفكرية، ويبقى التدرج النوعي في زيادة جرعات الحريات المشروعة الاستثمار الحقيقي في مستقبل الوطن والأجيال القادمة.
|