هل كان الوضع الذي تعيشه السلطة الفلسطينية اليوم بحاجة إلى تيري لارسون مبعوث الأمم المتحدة ليضع النقاط على الحروف؟ هل كان الفلسطينيون بحاجة إلى شخصيات خارجية تلفت النظر إلى الأزمة التي يعاني منها الفلسطينيون خلال السنوات الماضية؟ في ظننا، أن الوضع الفلسطيني الداخلي بلغ ذروته خلال المرحلة الراهنة، فلم تعد هناك مبادرات فلسطينية، ولم تعد هناك رؤى واضحة، أو خطط استراتيجية يقدمها الفلسطينيون إلى الداخل أو إلى الخارج.. وأصبح كل أو معظم ما يتناوله الفلسطينيون هو ردود فعل متواصلة لأفعال ومبادرات خارجية.. رغم أن الفلسطينيين هم أصحاب القضية، وهم أصحاب الشأن الأول والأخير في مسألة الشرق الأوسط.. ويبدو أن الحكمة الفلسطينية بدأت تهتز وتفتقد ثقتها المعهودة.
ولا شك أن أكبر إخفاق كان هو الفشل الذي واجهه أحمد قريع رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، الذي لم يتمكن من اتخاذ أي قرار أو مبادرة أو خطوة خلال فترته التي مضى عليها عامان تقريباً.. وتمثل الفشل في جانبين، أولهما داخلي، حيث لم يتمكن مجلس الوزراء الذي يرأسه من إدارة الشأن الفلسطيني على الشكل المطلوب الذي تستوجبه المرحلة الحالية، وقد تردت الأوضاع الأمنية كثيرا؛ حيث لم يتمكن من رفع مظلة حماية لأبناء الشعب الفلسطيني وفي مقدمتهم قياديو المنظمات الإسلامية والوطنية في الداخل، وواصلت العنجهية والغطرسة الإسرائيلية والعدوان الإسرائيلي قطف أرواح عشرات من القيادات ومئات من المواطنين. وثانيهما، خارجي، تمثل في عدم قدرة الحكومة الفلسطينية على أن تنشر حولها مظلة حماية دولية لمساندة القضية الفلسطينية.. وقد كانت فيما مضى تحت مظلة خطوط حمراء عربية ودولية لا تستطيع إسرائيل تجاوزها، أما اليوم فقد أصبحت إسرائيل هي التي تحدد هذه الخطوط.. وهذا ناتج عن فشل السياسة الخارجية للحكومة الفلسطينية وتشجيع دول أجنبية إسرائيل على هذا العدوان.
وعلى الرغم من تقديم أحمد قريع استقالته التي لم يتم قبولها حتى كتابة هذا المقال (الخميس)، إلا أنه كان من الأولى قبولها، بل ربما أنه كان من الأولى تقديمها في وقت مبكر ومنذ شهور عديدة.
ومن المؤسف لنا نحن العرب والمسلمين وفي طليعتنا الإخوة الفلسطينيون أن الأزمة الكبيرة التي تعاني منها السلطة الفلسطينية لم يعد أمامها سوى أحد خيارين، لا ثالث لهما تقريبا.. إلا خيار البقاء على الوضع الراهن.. والخياران أصعبهما مر، ويحتاج كل واحد منهما إلى تضحيات كبيرة.
الخيار الأول
إعادة هيكلة المؤسسات السياسية الفلسطينية ليصبح العمل مركزياً في شخص رئيس الوزراء الجديد، أياً كان هذا الشخص، وتصبح بيده أوراق اللعبة الفلسطينية كافة.. بما فيها الإشراف على المؤسسات الأمنية كافة.. وبالتالي ينبغي أن يخرج الرئيس الفلسطيني المناضل المخلص ياسر عرفات من رام الله معلناً بشجاعة مثلما عودنا دائماً استقالته كرئيس أعلى للسلطة.. والجميع يعلم الجهود والتضحيات الكبيرة التي بذلها الرئيس عرفات في سبيل وطنه وقضيته.. وربما قد آن الأوان لأن يستريح استراحة محارب.. وفي هذا الخيار تتحقق عدة أمور، من بينها:
1 - الخروج من حالة الجمود السياسي للقضية الفلسطينية التي راوحت فيها منذ أربع سنوات تقريبا.. وذلك لقطع حجة كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وأصوات أخرى في المجتمع الدولي حول ما تثيره هذه القوى عن الرئيس عرفات، واستقالة ياسر عرفات من الحكم المباشر لا تعني أنه خارج اللعبة السياسية بل سيظل مرجعاً ملهماً ومحركاً للساسة الفلسطينيين. ولا ينبغي أن نفكر في هذه المسألة بحساسية كبيرة؛ فالمهم لنا عرباً ومسلمين وفلسطينيين هو القضية الفلسطينية.
2 - القضية الفلسطينية بحاجة إلى تقديم وجوه جديدة غير تلك التي ألفتها وسائل الإعلام العالمية من وجوه القضية الفلسطينية.. وقد يرى البعض أن هذه القضية غير ذات بال، ولكنها في الواقع أحد الدوافع النفسية التي تؤثر على المصداقية والتوجّه.. ونحن نعلم أن الوجوه الفلسطينية التي تعودت عليها وسائل الإعلام قد وصلت إلى درجة من اللا مصداقية - بكل أسف - ليس لأنها لا تمثل مصداقية في القرار السياسي الفلسطيني، ولكن لأن وسائل الإعلام تتجه بنوايا سيئة وعن قصد إلى حرق هذه المصداقية لدى هؤلاء الأشخاص بهدف التأثير على الكفاح الفلسطيني لصالح العدو الإسرائيلي؛ ولهذا فإن بروز شخصيات جديدة سيعطي توهجاً جديداً في الجدل الفلسطيني حول القضية الفلسطينية.. وستصبح لهم قابلية عالية في وسائل الإعلام العالمية، وقدرة كبيرة على التأثير في الرأي العام العالمي.
3 - من المفترض أن تبدأ الحكومة المركزية الجديدة في أجندة اجتماعية إلى جانب اهتمامها بالأجندة السياسية.. فالفلسطينيون قد عانوا بما فيه الكفاية من تدمير وقتل وعدوان من قبل الدبابات والجيوش الإسرائيلية، إلا أنه في المقابل لم يتم تقديم أي برامج أو مشروعات تنموية تعزز مكانة الفلسطيني في الداخل.. وما يعيشه الفلسطينيون اليوم هو أسوأ من أي حالة يمكن أن يتخيلها إنسان؛ ولهذا فيجب أن يكون تحسين الوضع الاجتماعي وتطوير البنية التحتية للفلسطينيين هو الأجندة الأساسية إلى جانب الأجندة السياسية.. وعندما تأتي وجوه فلسطينية جديدة إلى الواجهة الدولية، ستكون هناك رغبة وحافزية للتعاون معها والدفع لها - كما أتصور.
الخيار الثاني
ربما يكون هناك خيار آخر غير واضح المعالم، وغير محدد الاتجاهات، وهو خير بديل للخيار الأول، وقد يفرز نتائج بعدية غير معروفة على المدى القريب.. وهذا الخيار يتمثل في الانسحاب التام للقيادات المعروفة من الشأن السياسي.. وترك اتخاذ القرار إلى الشارع الفلسطيني ليحكم المرحلة القادمة.. وهنا ربما تعود الأوضاع الفلسطينية إلى مرحلة ما قبل أوسلو.. وهي مرحلة نضال انتفاضي أفرزت اتفاقات أوسلو.. وتجسدت فيما عرف بالانتفاضة الفلسطينية.. وهنا ربما تعطى القيادات المتطرفة قيادة زمام الأمور للقضية الفلسطينية.. وإذا أدركت القوى العالمية بما فيها إسرائيل أن هذا الخيار وارد لا محالة إذا تعذرت الحلول السياسية، فستكون أقرب إلى رضوخ سياسي يؤثر على مسيرة المفاوضات، ومن السمات الحتمية لهذا الخيار:
1 - يجب أن تعرف إسرائيل أن خيار المقاومة والانتفاضة سيظل هاجساً كبيرا يهدد الأمن الإسرائيلي.. وإذا أعطت السلطة الفلسطينية بهيكليتها الجديدة مصداقية عالية في المجتمع الدولي، فسيكون لزاماً على إسرائيل أن تتعامل مع الوجوه الجديدة.. وإذا لم تتعاون إسرائيل والقوى العظمى لإنقاذ الوضع الفلسطيني المتدهور، فستكون أمامها مواجهات عنيفة جداً تؤدي إلى مزيد من سفك الدماء، ونشر الخوف، وتدمير آمال السلام.. وسيظل الفرد الإسرائيلي في خوف مستمر ما دامت المؤسسة السياسية والعسكرية غير مقتنعة بإعادة الحقوق الشرعية للفلسطينيين.
2 - يقضي هذا الخيار على مبدأ الاعتدال والوسطية في السياسة الفلسطينية؛ وبالتالي يؤجج السياسة المتطرفة، ليس فقط داخل الأراضي الفلسطينية بل في كل أرجاء العالم؛ لأن إسرائيل ستتجه إلى استخدام العنف والقتل والتدمير، ويقابل ذلك رفع الحالة العدائية مع إسرائيل والقوى التي تؤيدها وتساند سياساتها.
إن الوضع الذي تعيشه الأراضي الفلسطينية بعد سلسلة من الاختطافات لرجال أمن فلسطينيين، ومحاولات الاغتيال لبعض الساسة الفلسطينيين، إلى جانب الاعتراضات على قرارات سياسة فلسطينية بتعيينات من قبل أعلى سلطة فلسطينية.. وكذلك مرحلة الجمود على المسار التفاوضي، وعدم قدرة الحكومة الفلسطينية بقيادة أحمد قريع على أن تنجز برامجها التي كانت في أجندتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. كل هذه الأمور مجتمعة، فيما لا يزال الحصار باقياً على الرئيس ياسر عرفات.. ونحن نريد هذه الشخصية الرمز أن تظل رمزاً قوياً منيعاً؛ لخدمة قضيته الأولى والأخيرة، ويجعل من المناسب معالجة الوضع المتردي بقرارات سليمة، وعدم إضاعة المزيد من الوقت في التفكير والممارسات التي لا تفيد.
*رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود
|