أي علاقة اجتماعية علاقة مركبة، وكلما زادت قوتها واستحكمت زادت نسبة التركيب والتعقيد فيها، وكل تركيب لا بد أن يكون له محصلة. في البعض منها قد تكون المحصلة الغيرة، وقد تكون الشفقة، وقد تكون الإحساس بالفارق أياً كان نوعه، وقد تكون أن يصبح أحد الطرفين يفهم الطرف الآخر فهماً مطلقاً أي أن جميع المساحات الداخلية مكشوفة لأحدهما أمام الآخر.. لا بد أن يكون أحدهما ذلك القارئ للصفحات المفتوحة من حياة شخصية الآخر مع ملاحظة أنه ليس بالضرورة أن يكون العكس صحيحاً بمعنى أن الأول لا يكشف إلا ما يريد.. ولا يتكلم إلا بما يحسب حسابه ألف مرة قبل الحديث فليس بنفس الدرجة من السطوع والوضوح مع نده. كل ذلك حتى الآن مقبول ويحدث في كثير من العلاقات الاجتماعية، فهناك مساحة من الخصوصية والحرية يجب أن نكفلها ونحترمها لكل شخص.. قد يكون ذلك الوضع نتيجة لفارق في المستوى العقلي والقدرة على التحليل، وقد يكون نتيجة لحسن النيَّة المطلق المسمى اجتماعياً بالطيبة، وقد يكون لهوة سحيقة في المستوى الثقافي والوضع الوظيفي.
عندما صبح هذا - لنقل - الحذق يتعامل مع نده من منطلق نقاط ضعفه فقط على سبيل المثال أن يشعر أنه بالنسبة لنده أنا وإلا فلا! أنا الأمن والأمان بالنسبة له فيذهب يجرحه بشكل مباشر وبشكل غير مباشر.. يذهب يسخر منه وهو معه ومع غيره، وقد ينحدر إلى درجة الحديث عنه في غيبته بمنتهى الإساءة، وقد يذهب - أنا لا أبالغ - يخونه ويطعنه من الخلف في أغلى ما يملك ألا وهو كرامته وكبرياؤه وكيانه الشعوري والفكري. في هذه الحالة لا تكون الأسباب التي افترضتها سابقاً منطقية أو حتى وجيهة، يبرز سبب مختلف عنها قليلاً هو بذور الحقد والحسد والغل المزروعة في قلب هذا الحذق والإحساس بالنقص والرغبة في التسلق على هزائم الآخرين التي يكون هو بنفسه سبباً مباشراً فيها؛ يقابلها الإنسانية بمعناها الحقيقي الخلق الحسن، الوعي، النضج، الثقة بالذات وبالآخرين، الرقي الفكري والشعوري.
وهنا تكون المحصلة خاسرة لا يصلح معها استمرار العلاقة فتعود تخربش عليها وتطويها بحزن وتكتشف في لحظة ما أن جميع الخيوط تتفكك وتتقطع أمامك مخلفة وراءها تساؤلات مليئة بالذهول وبالخوف وبالجزع.. صانعة في طريقها إما شخصية أنضج وأوعى وأقوى وإما شخصية مهزومة معزولة منحنية. هل البقاء لمن يتسلق على مشاعر الآخرين للوصول إلى رماد دنيوي - عاطفي، مادي، اجتماعي، وظيفي - تذروه الرياح مع أول هبة لها؟ هل الهزيمة النفسية والانكسار والسحق من نصيب المتسلحين بالصدق وبالجود وبالكرم وبالود وبالعمل اللابس طلب رضا الله الخالص له؟!
مما يجب أن نتفق عليه هو الاعتراف لذلك الحذق بأنه يملك ملكات سبحان المعطي قد تكون الجمال، حسن المنطق والمنطوق به من الكلام، القدرة على تغليف الخبث بالبراءة، الغل الذي جسوره كلمات النفاق - الانتعاش والإحساس بالنشوة الناتجة عن الخيانة من الخلف، هذه ملكات لا بد لنا من الاعتراف بقدرتها على المضي والانغراس في أرق مساحات الإنسان الإنساني. وليس الإعجاب بها فمن يستحق الإعجاب هو ذلك الإنسان الشفاف فيبقى هو الأقوى لأن القوة في الصدق ويبقى الأنضج والأوعى لأن الوعي يكمن في رقي السلوك والبعد عن دونيته ويبقى هو المنتصر لأن الانتصار في كل مرة من نصيب الحق.
أما ذلك الحذق فهو المهزوم من الداخل.. الضعيف.. المليء بالعقد النفسية التي جعلت لسانه وعقله وقلبه وعينيه ويديه مثل أرجل الأخطبوط تضرب في كل مكان على غير هدى.
هذا يقودني إلى استنتاج في منتهى القسوة ولكنه مع ذلك يا سادتي له نصيب كبير من الواقعية أنه لا يمكن في أي علاقة مهما قويت أن تكون نسبة الصدق والوضوح فيها 100%، ولا يمكن أن تكون نسبة الوضوح مثل الرؤية من خلال كأس شفافة من الجهتين.
على الرغم من عمومية الاستنتاج إلا أن حكاية المقال ليست حالة عامة في كل العلاقات، فهناك علاقات تبدأ غيبية بلا علاقة مباشرة بين الطرفين ومع ذلك تتوطد وتقوى بجذور الصدق من الطرفين والعطاء بجميع صوره أيضاً من الطرفين. وتبقى ما بقيا.
قد يكون في حديثي ما يخدش المساحات الرقيقة والراقية عند قارئي ولكنها الحاجة لصنع مجتمع راق تجعلني أنحرف عن مسار كتابة الجمال فقط.
|