لم يكن مهرجان بريدة لهذا العام حدثاً عادياً.. بل كان تظاهرة متنوعة استهدفت كل أطياف المجتمع من خلال الفعاليات والبرامج التي جاءت متسنمة ذروة الواقعية بل وحتى المثالية والنموذجية.. من هنا جاء الواقع التنفيذي متواكباً والشعار (بريدة.. صيف مختلف) فلم يكن المهرجان كلاسيكياً تقليدياً يستهدف الترويح بنمطيته المعتادة دون غيره.. وإنما ذهب الى أبعد من ذلك حينما تفاعل معه المجتمع بأسره.. الأمر الذي يؤكد النجاح.. ولن أتحدث هنا عن الدرجة الممنوحة له، فلعل الحكم من الخارج يكون عادة أكثر دقة وتجرداً مع أنني في ذات الوقت لم أجد شخصياً ما ينقصه رغم اعتباري له هذا العام تأسيساً وانطلاقة لعمل مستقبلي أكثر دقة وتميُّزاً.
ولئن كان شعار المهرجان (بريدة.. صيف مختلف) فإن حديثي هنا (بريدة.. مفهوم مختلف) ذلك لأن الكثيرين حتى من أبناء بريدة نفسها غابت عنهم حقيقة بريدة، وجوانب مهمة في تاريخها، ورجالاتها، وريادتها.. كان مهرجان هذا العام بمنهجيته واستراتيجيته التي تحدثنا عنها نافذة على تلك الصفحات المنسية.. فالسواد الأعظم قد لا يعرف ان نشأة العقيلات كانت في بريدة قبل خمسمائة سنة.. العقيلات بتاريخهم، وبطولاتهم، ورحلاتهم، ورجالاتهم الذين احتضنتهم بريدة بفيض حنانها.
في حين قد يجهل البعض الآخر ان بريدة أنجبت الرواف، وابن خليفة أول من وصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية من النجديين قبل الحرب العالمية الأولى..
وفي وقت كان فيه الراديو عملة نادرة لا يملكه إلا شريحة محدودة من المجتمع لا تستطيع سوى تشغيله واغلاقه قبل انشاء إذاعة الرياض كان ابن بريدة عبدالله بن سليمان الطامي قد اخترع إذاعة سمعت في أرجاء المملكة ودول الخليج، والأردن، وسوريا يديرها بنفسه اعتبرها الباحثون حلقة مهمة في سلسلة تاريخ الاعلام السعودي.. ولأن لأبناء بريدة الريادة فإن سليمان بن صالح الدخيل يشاطر طامي في مجال الاعلام فهو أول صحفي في نجد ولد ببريدة عام 1290هـ وانتقل الى العراق وأسس في بغداد جريدة أسماها الرياض كما أصدر مجلة مرادفة للجريدة.. الولود الودود كان لها بصماتها في مجال الطب من خلال ابنها حمد بن محمد اللهيب المولود في بريدة سنة 1305هـ والذي يُعتبر أول طبيب في المملكة والرائد الأول في محاربة الجدري قبل خمسة وتسعين عاماً تقريباً.
فيما أنجبت بريدة صاحب المقولة الشهيرة (العرب ظاهرة صوتية) عبدالله القصيبي (على علاته) الذي تُباع كتبه في بيروت، ولندن، وباريس منذ أربعين عاماً وقد أنجز عنه الباحث الألماني يورغن فازلا أطروحته للدكتوراه.. كما أن هناك أسماء كبيرة من ابناء بريدة لا أستطيع سردها وحصرها اعتمد عليها الملك عبد العزيز عند تشكيله لأول مجلس شورى في المملكة.
ورغم هذه العطاءات لم تبخل بريدة فقد قدَّمت عميد الرحَّالين العرب ابنها البار معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي الذي جاب أصقاع المعمورة وله من المؤلفات ما يصل الى المائتين.. وصف الحديث عنه أبو عبدالرحمن الظاهري بأنه من نعم الله.
ولأننا في فلك المهرجان الذي أشرع نافذته على بريدة كان معالي الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد رئيس مجلس الشورى حاضراً وهو أحد الأبناء البررة لهذه المدينة ولم يخف حنينه لبريدة حينما قال كيف لا أحن لها وأول تراب لامس جسدي هو تراب بريدة.
ما ذكرته مجرد نماذج.. أما القائمة فتزخر بأبناء بريدة الرواد.. ومن تقلدوا مناصب قيادية ولهم اسهامات سيكون لها في قادم الأيام وقفة.
وبما أن الحديث عن (بريدة.. مفهوم مختلف) فإن مهرجانها هذا العام اعتمد على عطاءات الداعمين، والرعاة الذين يؤمنون بأهمية الدور، ومقتضى الرسالة في ظل مواطنة مخلصة، وانتماء صادق، يشاطرهم الدور القيادات التي صنعت الحدث، والميدانيون والميدانيات من أبناء وبنات بريدة الذين تابعوا خطوات التنفيذ بكل دقة وتفانٍ واخلاص.
أما الحقيقة الأخرى التي قد يجهلها البعض الآخر فهي ان مشغلي الفعاليات من أبناء بريدة ففريق قفاري العالمي الذي شارك في المهرجان ويشارك في مهرجانات دولية هم خمسة أشقاء من أبناء القفاري ببريدة ومن أسرة معروفة هنا.. وفريق الطيران الشراعي من بريدة.. والفرق المسرحية التي شاركت في المهرجانات: ملتقى السمو، ألوان، فرفوش، طرائف وغرائب، الالعاب النارية كلها من بريدة ولها مشاركات خارج المنطقة كما أن صالح العريض، وبدر العبدان مقدمي برامج الاطفال من بريدة والأستاذ عمر الغضية رئيس فريق الرول ستكترنق (الدراجات الهوائية) من بريدة.. والمسؤول عن الالعاب النارية والدمى أحد أبناء بريدة.. إضافة الى ذلك كان لشعراء بريدة حضور مشرف في المهرجان.. وكذا المسرحيات التي عُرفت في بريدة منذ عهد الملك عبد العزيز حينما عرض أمامه الظريف (مضيان).
هذا هو المفهوم الحقيقي لبريدة التي سبقت عصرها من خلال أبنائها.. مقدِّمة نماذج وضاءة ومعطيات حية تبرز حقيقة الماضي وتألق الحاضر، واستشراف المستقبل حتى حوت المجد من أطرافه واحتلت في القلب والوجدان مكانة خاصة.
* عمداً لم أتحدث عن علماء بريدة.. لأن ذلك يحتاج الى موضوع مستقل.
*نائب المدير الإقليمي لجريدة الجزيرة بالقصيم |