أخذت تلاعب طفليها، تبادلهما ضحكات وسرور لا يكاد لهما حد.. اتاحت لشوقها غير الممنون ان يتراقص معهما فرحاً وانساً ولهفة وانسياباً، سمحت لباطنها المتوهج ولعاً وحياة وشروقاً أن يغطيهما، واستمرت بحنانها، لا تذكر يوما انها ملت احتضانهما، كان الطفلان كطائران يحلقان حولها ويرسلان بتغريدهما فتتلقاه نغماً سلساً يداعب سمعها ووجدانها الغيور الطامع لديمومة هذا الايقاع.. وبينما هي كذلك امتثلت امام ناظريها ملامح الأب ذيك التي قررت ان تنساها، وقفزت بها إلى تلك اللحظات التي جعلتها تتوارى منذ وقت.. ولكنه القدر يحتم عليها بقاء هذه العاصفة التي لاتتأخر في هبوبها متى شاءت.. وهنا توقف الطائران عن التغريد توقفاً بطيئاً انتهى بشرنجة ونحب وكأن اللحن غدا أشجان.
وفي هذه اللحظة أخذا يتأملان الأم.. يبحثان عن إجابة لسؤالهما العابر: ما الذي حدث فكشفت.. ذيك الدمعة المنحدرة عن أسس دفين.. اقترب الطفل من أمه وقد غطى وجهه الحزن ونادى بحرارة: ما الذي قلب حالنا يا أماه؟! ماذا نكد خاطرك وقطع جماح فرحك وانت قبل لحظات كنت في فرح وأنس ينبثق منك ونتراسله معاً.. فهل أنت متعبة؟!. صمتت الام ونابت عنها دموعها.. احتار الطفلان واعتلاهما خيبة تصرف فيما حولهما، اقتربا اكثر حاول احدهما ان يمسح هذه الدموع بيد طفولية حانية لا يختلجها زيف أو تكلف واختار الاخر ان يكتنف أمه ضماً واحتواء وأخذا ينشران حولها براءتهما واخلاصهما الحسي لها.. احتوت بيديها كلا الطفلين وهي تتوجس حاضراً مهيباً ربما وقع.. تنهدت رويداً بعدها باحت ببعض كلمات بدت غير ذات معنى على مسمعيهما ولكي تبدل من هذه الاجواء اخذت بيد كل واحدة إلى احدى غرف المنزل، كلفت احدهما بانجاز عمل والآخر بعمل يختلف ونبهتهما إلى ضرورة الاتقان ثم انصرفت لتكمل جانبا من الاعباء المتبقية، وبينما هي كذلك سمعت طرق الباب ذهبت لتعرف طارقه فاذا برسول من والد الطفلين يوصل إليها جملة من الكلمات كانت كل كلمة منها بمثابة سكين تقطع اجزاءها، وسيف يحتم عليها نهايتها التي لم تحن..
ذهب الرسول ووقفت هي متسمرة تتخللها آهات الحسرة والالم.. ظلت تحتفظ بأساريرها الدؤوبة.. تحاملت وولجت الى المنزل وخطت مهرولة إلى المكان الذي يرتع فيه الطفلان فوجدتهما منشغلين بما وكّل إليهما.. وقفت على الباب ملياً ثم اقتربت تنظر الى مالهت اليه الايدي الطفولية فبادرها احدهما بسؤاله: أمي هل يعجبك هذا..؟ ثم اردف الاخر: انظري يا امي.. وقع نظرها على هذه الاعمال ولكن ذهنها قد جاب بعداً آخر.. لم ينتبه الطفلان لذلك فأعاد أحدهما السؤال لعل هذا الصمت يُجيب! امي: كيف هو عملي؟ تنبهت وكأن صوتاً يناشدها الرد اعادت النظر ثانية ثم قالت: هل اساعدك؟ فأجابها: الم تسمعيني يا امي؟ قالت: ماذا؟ قال: كيف رأيت عملي؟ اجابته: إنه رائع من يد ذكية ثم أكملت: وانت ايضا عملك ناجح ويدك فيه ماهرة.
جلست بين هذه الاعمال تحرك يديها لتشارك الصغيرين فرحة الاعتماد والثقة السائدة في الانشغال بتلك الاعمال ولكنها وهي تفعل ذلك لا تكاد تفقه ما الذي تصدره يداها لمساعدتهما فذهنها قد شرد بعيداً الى ذلك المستقبل الذي يهددها ويخطف منها لحظات سعادتها معهما، ولم تمتلك قواها فخرت ثانية بالبكاء وضمت طفليها بشدة وهي تشعر ان احداً ينافسها هذا الشد ولأنها لا تستطيع ان تبوح.. لا تقدر ان تفضح سبب خوفها.. لا يمكنها ان تشرح ذلك فقد فضلت الكتمان واكتفت ان يكون ما بداخلها ألماً تمضي به امامهما كي يطمئنان. واسترسلت لهما بأن هذا سيزول الآن.
وفي الغد قررت ان تخرج مع طفليها الى احد المحلات المجاورة وهي تهدف نقلهما إلى المرح واللهو باختيار بعض مايناسبهما.. وصلوا الى المتجر كانت يدها تقبض بحذر يد الطفل ويدها الاخرى كذلك.. تنقلت معهما وهي ترى الونس يتخللها واشتركت معهما في الاختيار واسرعت إلى مكان الحساب وكأن قوة تطاردها.. وبعد ان انتهت اشارت إلى طفليها ان يسرعا وركب الجميع.. إلى البيت وفي الطريق اشتد عناؤها وسيطر عليها هاجس الخوف وتوهمت أن خطفاً سيقع على ابنيها فأشارت إلى السائق ان يسرع ويضاعف سرعته وبلطف الله وصلوا إلى المنزل.. هرولت بهم إلى الداخل انصرف الطفلان يلهوان بما لديهما من جديد واتجهت الام تؤدي فرضها وتناجي ربها بشيء مما يكنه وجدانها وينطلق به لسانها وخلصت إليه متوسلة ان يحفظ طفليها ويشرح صدرها سكينة واطمئنان.
وفي يوم.. يتوجب ان يحكي فيه القدر وصل إليها ذلك الرسول طالباً منها الحضور مع طفليها الى منزل الاسرة الكبير.. ناشدته ان يفيدها ما الخبر ولماذا يستعجل حضورهم؟ اجابها: ستعرفين عندما تصلين.. ذهبت مع طفليها مستسلمة لامر الله وقد ايقنت انه تعالى قد كتب على نفسه الرحمة.. ولت وهي تحمل هماً قاسياً وشروداً راكناً وروحاً متألمة.. انتقلت مع طفليها مترددة بين قدر سيعلن لها وبين قطوف من الاحزان لاتجف وبين مصير جارح ظلت تنتظره وتعيشه حتى اللحظات وعن بعد من المنزل شاهدت هذا الجمع الكبير وهذه الفئات المتلاحقة واكواما من البشر هنا وهناك فما الأمر وما الذي يتجمع الناس من أجله؟! هل ندعى الى فرح أو عرس بهذه الطريقة وهل يؤتى بنا الى دعوة بهذا الاسلوب؟! لا.. لا أظن الواقع كذلك.. وبينما هي تحاول تجاوز هذه الخواطر وترمي بها جانبا وصلوا إلى المنزل الكبير ورويداً استعدت للدخول مع طفليها.. صرخ احدهما أمي من هؤلاء اني خائف.. هدأت من روعه وطمأنت الآخر وسرت بهما الى الداخل، هناك بدا الصمت سائداً ولا يسمع سوى تمتمات خافية، انزوت الام جانبا بعد ان أدت واجب العزاء.. اقتربت اليها احدى الاخوات تروي لها كيف وقع المصاب وكيف نال الموت من الأب وتوسلت إليها أن تطلب له الرحمة وتُجرد قلبها مما حمله له فقد كان القاسي المكابر المهدد حين اوشك على اخذ طفليها إكمالاً لجبروته ونفسه التي لا ترحم، والان قد وصل وحال الموت بينه وبين نواياه وقصم عن روحها ذلك الكابوس والاوجاع والمخاوف.. ابتعد من حيث لن يعود وهي بعد هذه اللحظات تُقاسم شعورها المنشطر بين هم كامن تمنت زواله وبين تاريخ جديد سيحل بهذين الطفلين حيث اصبحا باسم آخر.
|