Friday 23rd July,200411621العددالجمعة 6 ,جمادى الثانية 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الثقافية"

قصة قصيرة قصة قصيرة
تعلمت السباحة
عبدالله جاسر الجاسر

كنت في العاشرة من عمري أو هكذا أتذكر، كان ذاك اليوم نقطة تحول في حياتي، كما هي النقاط الأخرى التي تغير مسارات حياتنا سلبا أو إيجابا.
التمت أسرنا من مطلع ذاك الفجر الجميل لرحلة أسرية افتقدناها كثيرا هذه الأيام، كانت رحلة لذلك المنتجع الكبير، ما كان منتجعا بقدر ما كان المكان كحديقة فسيحة، الأشجار الخضراء في كل بضعة أمتار منها باسقة.
كان مكانا جميلا لطفل مثلي يسرح ويمرح بدراجته، وأسرته تلتم في مكان واحد لقضاء أوقات سعيدة.
لا اذكر أحداثا كثيرة ذلك اليوم لكن بلا شك كان مطلع ذلك اليوم جميلا، كجمال صباح يشرق على زقزقة عصافير، تسبح في أفق غابة خضراء جميلة.
وقت مضى، لا أتذكر كيف انقضى صباحه، بعد الظهيرة، كانت هي العادة لنذهب للسباحة وكان هنالك لربما ثلاثة أحواض - لا أتذكر جيدا - الأهم هو ذلك الحوض الكبير، لا أقول حوضا بقدر ما كان كأرض مقعرة كبيرة مغطاة بطبقة بلاستيكية زرقاء سميكة ومليئة بالماء وحوض آخر صغير بجانبه، الجميع كان يلعب ويمرح، وكان أجمل ما في الأمر هي تلك المشاكسات في إيقاع كل منا للآخر ببلاهة!
كانت الأرضية ملساء ومن الخارج منحدرة بتدرج كدائرة تزداد عمقا نحو القلب.
ذهب الجميع، وبقيت أنا وخالي نسبح ونلهو.
فجأة!
وإذا بتلك الطفلة الصغيرة تصرخ وتصيح (أخي.. أخي!!)، ببكاء مجنون وخوف، تذهب وتجيء من الجهة المقابلة وعيناها لا تفارقان ذلك الجزء الغامق من الماء!!
وما أنسى ما حييت ذلك المشهد المرعب، وذلك البكاء المجنون، وذلك العجز الذي حاصر الجميع بما فيهم تلك الفتاة المكبلة في مكانها، وهي تنظر إلى قاع الحوض بعد أن شُلت قدميها من الخوف!!
والأكيد أني لن أنسى ذلك الرجل الذي نادى بأولاده هاربا (لا دخل لنا.. لا دخل لنا هيا أخرجوا ) وفر هاربا!!
أتذكر الآن ذلك الرجل الذي يمسك بجذع نخلة طويلة يمدها إلى العمق، محاولا المساعدة، خائفا الغرق!
بقيت واقفا في مكاني في وجوم أوقف كل الصور، وعطل كل الأصوات، إلا صورة تلك الفتاة التي تبكي، وصوتها وهي تصرخ!
كنت ما بين غائب عن الوعي وما بين حاضر، لا أدري ما هي الأصوات التي حولي، أكانت صراخا أم ضحكا، أكانت هرولة أقدام أم طرقات جري!!
أفقت ومَن يشدني لجلب المساعدة، ذهبنا نجري إلى الحوض المجاور بجنون، وعدنا ركضا ببعض السباحين، وأنا أعد خطواتي وكم نفسا ذهب من صدر الغريق!
الوقت يمضي، والخوف يتسلل لسرقة وعيي، أفقت وإذا بيدي تشدني من خالي أن دعنا نذهب!
كانت ليلتي تلك كلها خوفا، كلها صراخ، كلها بكاء!
أفقت من حلم، والأسئلة تمطر علي من أمي، ما بك، ماذا جرى لك!!
فأدركت أن قصة الغرق، سر بيني وبين خالي!
لم أر الغريق حين غرقه، ولكن صورة الفتاة وهي تجن وذلك الجبان وهو ينسحب هاربا وصوته النشاز يئن في أذني، وذلك العاجز عن التقدم لإنقاذه، ما زالت أحداثا عالقة في ذهني، وأسئلة كثيرة تدور في عقلي الصغير أهمها:
هل ماتت؟
مضت ثلاث سنوات على تلك الحادثة، وأنا ما بين خائف من السباحة وما بين راغب في التعلم، إلى أن حانت لي تلك الفرصة الصغيرة في إحدى المناسبات.
كان هنالك حوض كبير، وكان ابن عمي سباحا ماهرا، وكنت في صحبته أتعلم السباحة، أعطاني الآمان، ووعد بالإنقاذ .
أخبرني أن أحبس أنفاسي وحسب.. إن وقعت في قبضة الماء ولم أستطع الإفلات، عندها أخذت أقطع أشواطا ذهابا وإيابا على مد الرصيف الجانبي للجزء العميق، وأن أحاول الإمساك بطرف الرصيف ما إن خشيت الغرق، وهكذا أخذت أتعلم.
سكنت الطمأنينة قلبي، وبدأت أقطع أشواطا بسرعة بالغة قلب الحوض - مبتعدا عن الرصيف الجانبي - وأفلحت مرارا، وزال الخوف بالتدرج.
وبينما أنا كذلك، وأنا أقطع قلب الحوض، وفي المنتصف وقع فيني الخوف.. ذعرا!! أسقطني في القاع، كان خوفا يزن طنا قد كبل أقدامي في القاع، وكما لو أني أراني أصرخ وأنا أتعارك محاولا الإفلات من غاصب يختطفني محاولا إثارة انتباه أي أحد لإنقاذي ولكن لا أحد يسمع ولا يرى!
هي ذاتها تلك الصورة أهوي إلى القاع، تلتهمني زرقة الماء فلا أكاد أرى أختي وهي تصرخ ( أخي... أخي!!! )
وأحدهم يمد لي يدا قصيرة، فأشير له أن اقترب، فيشير لي بإماءة بالرفض !
وصوت آخر من بعيد ( لا دخل لنا. . لا دخل لنا )!!
وأصوات أثار تتخبط هنا وهناك ما بين فزع وهارب!!
تنتهي أنفاسي، فيدخل الماء كتله تحطم مسارها إلى جوفي!
لا هواء. . لا هواء!!
فكتلة أخرى أشد قساوة ترتطم بحلقي فتملأ جوفي!
هي أجزاء من الثواني، تتسابق فيها كتل الماء الصلبة لتمزيقي !
هو الخوف قد تلاشى، وها هي روحي تستسلم!! انتهى كل شيء.. كل شيء!!
فأصرخ ثائرا واقفز ممسكا بالرصيف. . واقع على الأرض مستلقيا أجمع أنفاسي بهلاك!
لتستكين روحي، وتنطلق عشرات الشتائم لهنا وهناك!
والجميع في ذهول (ماذا جرى له !! )
هي ابتسامة صغيرة عادت إلي!!
تناسيت كل شيء، وعدت إلى الماء مجيدا للسباحة!
لا أدري ربما كنت فقط أسفل الرصيف.. وكل ما أحتاج إليه هو قفزة ويد، لا اذكر!
ما أذكره، أني بعدها لم أهب الماء أبدا!
ربما تلك الطفلة أنقذتني، وفي أحيان أقول ربما هي الروح أمسكت بها وهي تخرج!!
والأكيد هي رحمة الله قد حلت علي.
تعلمت السباحة..
وقد أدركت أن الجميع في هذه الدنيا يسبح وأن الماء يملأ كل مكان!

(الرياض )


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved