ذِكْر وإهداء
للوطن حقوق لا تتجاوز الشيخ الكبير، ولا الطفل الصغير، كما لا تَعذر العَالِم في تَقصيره، ولا المتجاهِل في سوء تَدبيره، ولا مَن هو بين هذا وذاك، لا سيما أن البلاد الإسلامية -بعامة- والمملكة العربية السعودية -بخاصة- قد تكالبت عليها رماح الأعداء وأسِنّتها من كل جانب، حتى بدأتْ تَدُق بمطارق اتهاماتها على مناهجها التعليمية، خاصة الدينية، بَدءاً من مراحل الطفولة الأولى، رغبة في أنْ يتلاشى هَدْيُ القرآن الكريم من حياة البَشر: مُسلِمِهم وغير مُسلمهِم.
ولما كانت تلك الاتهامات صادرة عن مقاصد أساسها الرغبة في تفكيك الأرضية الفكرية التي ينطلق منها المسلمون، ذهبتْ تتحدث عن المناهج، بوصفها مُحتوى فقط، أي مضموناً لا أكثر، وذهبتْ تَخصّ المحتوى القرآني -تعالى عن ذلك- بوصفه مضموناً تسبّب في تضخّم مَدِّ الإرهاب الحارق الذي يجتاح العالَم بأشكال متعددة، منها ما سُمِّيَ (إرهاباً) على حقيقته وعلى غير حقيقته، ومنها ما سُمِّيَ بغير ذلك.
ومع هذا الضغط في ترسيخ مفهوم المنهج على أنه (محتوى)، ومن السهل (إصلاحه) بتغييره، أي بإفراغ كأس المواد الدراسية من السائل المُضمَّن في جوفها، واستبداله بآخر، شاع في حُدود معظم الطروحات الحِوارية والجدلية التي قرأتها مكتوبة من قِبَل المسلمين، وسأخصّ أبناء المملكة العربية السعودية، أنّ المنهج (محتوى)، ومضى الأغلبية يُفنِّد تلك الاتهامات، فلا عنف، ولا حَضَّ عليه ولا على الإرهاب، لا في التوحيد، ولا في الفقه، ولا في القرآن الكريم، وللحق، فقد قرأتُ كتابة مختلفة موجزة في موقع مركز التطوير التربوي الإلكتروني التابع لوزارة التربية والتعليم تحت عنوان (المنهج بوصفه أداة تفكير) لمسئول برنامج تنمية مهارات التفكير، الأستاذ: رجاء العتيبي -رعاه الله وسدده-.
إنْ لم يكن غير هذا الأثر لتلك الاتهامات، أي تثبيت وحصر مفهوم المنهج في (المحتوى الموضوعي) المُراد تعريف الطلاب والطالبات به، فإنه كافٍ ِلأنْ تُؤمِّل تلك الهجمة المعادية بأنها ستنجح، ولكيلا تنجح -بإذن الله الواحد الأحد-، ولكيلا تبتهج بسريان هذا السم الذي تضخه عبْرَ مساريب متعددة الخفاء، والأبعاد، والآثار، أطرح هذا الاقتراح التوضيحي التطبيقي علّه -على الأقل- يُصوِّب المفهوم، ويشحذ الهِمَم، لتفعيل طَوْر تعليمي جديد يستثمر طاقات الطلاب والطالبات، والأساتذة والأستاذات، في صياغة تجربة تعليمية تطبيقية تساهم في إنارة شمعة من مشاعل الحضارة الإسلامية، وتبلغ بها شوطاً أبعد مما بلغه سلفناً -رحمهم الله-.
أطرح هذا الاقتراح عبر صحيفة الجزيرة وهي الجريدة التي مثّلتْ لي نموذجاً مشرقاً للصدق الإعلامي، وللأمانة الفكرية التي تُحفَظ حقوقها، ويُقوَّم مسارها، ويُنشَر شذاها للعالمين بلا حَيف، أو حسد، أو إخلال.. والاقتراح -باسم الجامعة التي احتوتني، طوال عام دراسي من بدء التحاقي الحديث بها، احتواءَ الأب الحنون الحكيم لابنته التي رامت أمجادا، فأخذ بيدها إليها بإخلاص نادر المثيل.. باسم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- إهداء إلى مقام صاحب السمو الملكي، الأمير: سلطان بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع والطيران، والمفتش العام، ورئيس لجنة تطوير المناهج التعليمية التربوي -حفظه الله تعالى ومتعنا بشفائه وسلامته-.
أسس الاقتراح
لا بد من تدوين بعض المرتكزات التي ستسند تطبيق هذا الاقتراح، كي تحقق هدفها المنشود في أفضل مستوى، وهي:
1-من العنوان (التفكير الفطري)، يتأسس تأكيد إمكانية أن يحظى كل فرد منا بموهبة التفكير المنظَّم المُنتِج، إذا أخلص النية الشريفة في توظيفها توظيفاً شريفاً يخدم الدين الإسلامي الصحيح، ولا يُعارضه، ولا يُعارض مصالح المسلمين، ولا يُفزِّع أمانَهم.
2-الانطلاق من مصدر التشريع الإسلامي الأول، ومعجزة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الخالدة، القرآن الكريم، بوصفه الأساس الأول للمنهجية بمعناها القويم البنّاء الذي سيعمل به هذا الاقتراح.
3-توظيف ما لا يتعارض مع توجيه القرآن الكريم من نظرية القراءة والتفكير النقدي الأدبي الحديثة (نقد النقد) (Metacriticism) بمنهجيتها التي ما زالت تُبنى، وقد تعلّمْتها - للمرة الأولى- وتحصّلتُ على بعض مصادرها من الأستاذ الدكتور: فهد بن عمر بن سنبل -رعاه الله وأثابه-، وتعاوَن الأستاذ الدكتور: سُورِش سُومْناث رافال (Dr. Suresh Somnath Raval ) (الأستاذ بجامعة أريزونا) في لَفْتِ نظري إلى بعض مفاتيح التعامل معها مشكوراً، وقد تزوّدتُ بالكثير الذي أصّل هذه النظرة المنهجية من قراءتي المُدقِّقة لكتاب (الضروري في أصول الفقه) أو (مختصر المُستصفَى) لابن رُشد (ت595هـ).
4-توظيف الآليّات المنهجية الفكرية المنطقية التي تضمّنتها المادة التي تفرّدت بأولوية طرحها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي بكلية اللغة العربية، وهي (منهج الأدب الإسلامي) التي تلقّيتها من خلال تدريس الأستاذ الدكتور: عبد الله بن صالح العريني -أثابه الله تعالى-.
5-تحرير مفاهيم المصطلحات التي أصبحت مشحونة بمفاهيم سلبية، مثل (الإصلاح) الذي شُحِن بمفهوم الفساد العالمي، وكذلك الخلل العالمي الذي يستدعي تقويض النظام والبنية الحالية للشيء المُطالَب بإجرائه فيه وعليه، وهذا لا يَصْدق إلا على الأنظمة البشرية التي لا تنتمي للإسلام الصحيح، ولا تسير على هديه.
6-التركيز على التطبيق، لأنّ التنظير يبقى قاصراً عن بلوغ الواقعية المفيدة والمُنتِجة ما لم يُرَ تطبيقا يُقوَّم ويُحلَّل، ومعه التوضيح، والشرح، والتمثيل ، لكي يكون الاقتراح في غاية الوضوح لمن سيَنقُده، أو يقرؤه فقط، أو يُحلّله، أو يُطبّقه. والتطبيق التحليلي على الآيات القرآنية من 11-30 من سورة المدثر، وعلى قصة مقولة الوليد بن المغيرة المخزومي، سيُركِّز على جانب منهجية التفكير، أي لن يخوض في علم التفسير، ولا الإعجاز البلاغي، مع التنبيه إلى أنه يوجد كثير من الشواهد التي يمكن التطبيق عليها. لكن اختيار هذا الشاهد جاء لتحقيق الهدف الأساسي لهذا الاقتراح كما سيأتي.
7-التأكيد على أن هذا الاقتراح اجتهاد يُعبِّر عن رأي صاحبته، حيث لا يُنسَب الخلل أو القصور إلى مَن تَعلّمَتْ على أيديهم، ولا إلى مَن تنتمي إلى مؤسستهم التعليمية أو الإعلامية، وإنما هي المسئولة عن ذلك، كما أنها محاولة لتقديم إسهام علمي باسم الجيل الشاب من الإناث في تجاوب صادق مع القيادة السامية لتطوير العطاء التعليمي في بلاد الحرمين الشريفين بما يُحقق طموحات الشباب، ويعصمهم من فِخاخ الانحراف، والإرهاب، والجهل بأدنى واجبات الإنسانية.
8-الهدف الأساسي لهذا الاقتراح -بأسسه كلها- هو: تنظيم التعامل مع الاتهامات التي تُثار حول المناهج التعليمية في البلدان الإسلامية، وحول القرآن الكريم بوجه خاص، بهدف بناء منهج يتلاءم مع طبيعة الشخصية العربية ويحميها من أي مؤثرات فكرية منحرفة ، وذلك من خلال استنتاج منهج منظّم من خلال موقف عربي دار فيهِ الخِلاف حول القرآن الكريم بدايات الدعوة الإسلامية، مع التفريق بين موقف القُرشيين قبل إسلامهم آنذاك وموقف الذين يتّهمون الإسلام ومناهجه في العصر الحديث، فالقرشيون لم يكونوا يعلمون أن القرآن الكريم هو الحق، فيما أصحاب الاتهامات المعاصرون يعلمون ذلك علم اليقين ، والقرشيون ساروا على منهجية علمية ذات خطوات تعكس التفكير الفطري الذي كان دارجاً في البيئة العربية ببساطتها آنذاك، فيما أصحاب الاتهامات المعاصرون ليس لديهم أي منهجية، أو أي خطوات علمية تدل على تفكير منظّم أو طلب صادق للحقيقة أو لمكافحة بذور الإرهاب الفكرية.
إن ما سبق يُوضح أن الهدف ليس تقديم عرض تاريخي لقضية أو موقف. إنما هو بناء منهجية (التفكير الفطري) التي نضجت في البيئة العربية.
الاقتراح
قبل أي شيء، يأتي تعريف المنهج بأنه -في أساسه- (خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية أو حسية، بُغية الوصول إلى كشف حقيقة أو البرهنة عليها (بما يُناسب بين جوانب المنهج الثلاثة: الأسس النظرية، والأدوات الإجرائية، والفكرة المطروحة. واستعمال المنهج بمعنى المواد الدراسية استعمال وارد، بل أصبح شائعاً في سياق النظر إلى العملية التعليمية الكلية فقط، وليس على سبيل تعميم هذا المفهوم خارج هذا الحد أو السياق الكلي، ويمكن توضيح هذه الفكرة بمثال: (الرجل) في سياق مزرعة يفلحها ويرعاها نُسميه (فلاحاً)، و(الرجل) -نفسه- في سياق بيت فيه زوجة وأطفال نُسميه (أباً أو زوجاً)، و)الرجل) في سياق تنظيم سير المرور نُسميه (شُرطياً)، وفي الحالات كلها، للرجل -حسب خصوصيته- مفهوم خاص نُعرّفه من خلاله، ووظائف خاصة يقوم بها، وواجبات خاصة نقوم بها تجاهه، لا يختلط بعضها ببعض.
بهذا تكون المواد الدراسية بمثابة خطوات تبني كيان الدّارِس العلمي: القرآن الكريم يبني العقيدة، القراءة تبني اللغة العربية القويمة، الكتابة تبني طريقة التعبير الصحيحة عن الأفكار أو الخواطر، الرياضيات تبني معرفة الحساب المهمة،... إلخ.
خلاصة
لعل المُلاحَظ أن أول ما حدث هو تحديد (المصطلح) بأنه (المنهج)، ومن بعده تحديد (المفهوم) بأنه (خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية أو حسية)، ومن بعده تحديد (الهدف) بأنه (الوصول إلى كشف حقيقة أو البرهنة عليها)، وهذه هي العمليات الثلاث الأولى التي يلزم القيام بها تباعاً في بناء المنهج، أو وعيه، وتدريسه.
* التطبيق: قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً {12} وَبَنِينَ شُهُوداً {13} وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً {14} ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ {15} كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً {16} سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً {17} إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ {18} فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {19} ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {20} ثُمَّ نَظَرَ {21} ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ {22} ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ {23} فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ {24} إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ {25} سَأُصْلِيهِ سَقَرَ {26} وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ {27} لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ {28} لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ {29} عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ {30} } (سورة المدثر).
إن هذه الآيات مما اشتهر بين الناس في معرفة الشخصية التي نزلت فيها، وهي شخصية الوليد بن المغيرة المخزومي، والمناسبة معروفة أيضاً، وهي عندما تأثر بالقرآن الكريم، فاجتمع إليه القرشيون، خوفاً من تفاقم تأثره وإسلامه، فشاوروه فيما ينبزون القرآن الكريم به، ويدفعون به خطر الرسول صلى الله عليه وسلم، فطلب مقترحاتهم أولاً، قبل أن يقترح قائلاً: (بل أنتم، فقولوا أسمع).
(قالوا: نقول: كاهن.
قال: لا، والله، ما هو بكاهن. لقد رأينا الكُهّان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.
قالوا: فنقول: مجنون.
قال: ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تَخالجه، ولا وسوسته.
قالوا: فنقول: شاعر.
قال: ما هو بشاعر. لقد عرفنا الشعر كله: رجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول: ساحر.
قال: ما هو بساحر. لقد رأينا السُّحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عَقْدهم)5.
وقال قولته التي رصدها العلماء: (والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمُغدِق، وإن فرعه لجناة. وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف أنه باطل. وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك)6. ولهذا السبب خلّد القرآن الكريم وصف الوليد للقرآن بأنه سحر من باب محاولته لتجويد الاتهام الذي يريد به إرضاء القرشيين.
إن التدقيق في هذه القصة يُمكن أن نستفيد منه استنباط خطوات التفكير الإجرائية الآتية:
1-الرؤية الشاملة: حيث أحاط كُفّار قريش بالمشهد، وبما فيه من أبعاد ماضية (أحداث الأقوام السابقين وانهزام وحدتهم أمام الأنبياء والرسل)، وأبعاد حاضرة (إسلام بعض القرشيّين الذي بدأ يزداد يوماً بعد آخر وحيرتهم فيما يدفعون به هذا الخطر)، وأبعاد مستقبلية (غلبة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيادته على قريش بمبادئ جديدة تُلغي كثيراً من أبنيتهم الاجتماعية السياسية خاصة)، ولا يخفى أنهم جعلوا الوليد (مرجعيّتهم) التي يستندون عليها، مثلما يستند الباحث الأكاديمي على الدراسات السابقة الموثوقة، لكي يخرج بنتائج جديدة قوية الأُسس، فَهُم قد اعتمدوا مبدأ (الشورى)، ومبدأ تعيين رأس للجماعة يأتمرون بأمره ويُطيعونه، لأنه أعلاهم في مُقوِّمات القيادة الفكرية.
2-التصنيف: بعد أن أحاطوا بالأبعاد الثلاثة، حدّدوا محاور المشكلة من جهتهم، وهما اثنان: أ- الرسول صلى الله عليه وسلم الواثِق من صدق رسالته، والذي ما عُرِفَ عليه غير الأمانة والصدق.
ب-القرآن الكريم الذي جاء به وَحياً من عند الله -تعالى-.
وبالتالي، حاولوا حلّ المشكلة من خلال تصنيفهما في أوصاف تنطبق على الاثنين معاً، فتُريح القُرشيِّين منهما معاً أيضاً، وأعني: وصف الكِهانة، والجُنون، والشِّعر، والسّحر، بشكل مُجرّد من أي إضافات تُعطيها خصوصية ما -جلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرآنه الكريم عن هذا كله-. ولا يخفى أنه قد تحدّدت خطوات المنهج الثلاث الأولى:
أ-المصطلح (محمد صلى الله عليه وسلم)، و(قول محمد صلى الله عليه وسلم).
ب-المفهوم: (محمد) هو الرجل القرشي الصادق الأمين، الذي جاء بكلام مؤثّر فوق كلام البشر الطبيعيين، يدعو به لنبذ عبادة العرب الوثنية وعاداتهم غير السوية. و(قول محمد) هو ذلك الكلام المؤثر الذي يفوق كلام البشر الطبيعيين، والذي جاء به (محمد) ذلك الرجل القرشي الصادق الأمين، يدعو به لنبذ عبادة العرب الوثنية وعاداتهم غير السوية.
ج-الهدف: وهو الخَلاص من خطرهما بطريقة غير طُرق العنف، أي ردّ القول بالقول من باب مقارعة الشيء بمثيله.
3-التنظيم: حيث فكّروا في تقديم المشكلة الأكبر والأخطر، فكان أن قدّموا الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ إنهم إذا استطاعوا دفع خطره، وتنفير الناس من الاقتراب منه، فإن ذلك يكفيهم خطر القرآن الذي يتلوه مباشرة، من باب تبعيّة اللازِم (القُرآن الكريم) للمَلزُوم (الرّسول صلى الله عليه وسلم)، ولو فكّروا بالعكس لكان رميهم القرآن الكريم بصفة الجنون، لا يستلزم أن تكون هذه الصفة فيمن جاء به يتلوه للناس -جلّ عن هذا وسما-.
4-التفسير والتأويل التقويمي: وأعني بذلك محاولتهم شرح ماهية الرسول صلى الله عليه وسلم وماهية القرآن الكريم من جهة حكمهم، هُم، بما يخدم هدفهم مباشرة. وقد اجتمعت العمليات الثلاث: التفسير (الشرح والتوضيح للشيء في سياقه الخاص)، والتأويل (تفسير الشيء بشيء من خارج سياقه)، والتقويم (الحكم على الشيء بمنحه قيمة سلبية أو إيجابية من وجهة نظر صاحب الحكم)، لأن القرشيّين فعّلوها معاً في هذه القصة على مُستويين: أ-بسيط، وهو مقولات القُرشيّين.
ب-مُركَّب، وهو قولة قائد القُرشيّين الفكري: الوليد بن المغيرة.
وبيانهما كالآتي:
أ-المستوى البسيط
ويتمثّل في تفكير عامة القُرشيّين من خلال أوصاف مفردة مجردة من أي زيادات لغوية تمنحها زيادات معنوية، وذلك بقولهم: (كاهن)، ثم (مجنون)، ثم (شاعر)، ثم (ساحر)، فهذا غاية ما استطاعوه من كيد واتهام، منطلقين من نسبة هذه الأوصاف العامة لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ليرتاحوا بانسحابها المباشر على القول الذي يتلوه، فهو كِهانة، أو جُنون، أو شعر، أو سحر، والسحر غاية ما استطاعوا، وردّ الوليد بن المغيرة هذا كله.
إن هذه التّهم الأربع مما يدخل في سياقها القول (الكلام)، ويُوظَّف لتفعيل الكِهانة، والجُنون، والشعر، والسّحر، والقرآن الكريم -بالنسبة لهم- مُجرّد قول، الأمر الذي ألجأهم لتفسير القول بما يُشابهه من القول. لكن بما أنه قولٌ من مجال آخر ليس مما ينتمي له القرآن الكريم، فهو -عند المسلمين- من باب التأويل، إذ استعانوا بسياقات وجدوها أقرب ما وجدوا بعد عناء، فجعلوها بيان ماهية القرآن الكريم، وتحديد خواصّه وقيمته. وهذه الصفات الأربع لا قيمة لها في سياق قيادة العرب، وتغيير شريعتهم الوثنية بأنظمتها الاجتماعية، والسياسية، والفكرية،... إلخ، فعلى أقلّ تقدير، الوليد بن المغيرة الذي اتّخذوه قائداً لهم في هذه الحرب الفكرية لم يكن كاهناً، ولا مجنوناً، ولا شاعراً، ولا ساحراً !
ب-المستوى المُركَّب:
ويتمثّل في أقوال الوليد بن المغيرة التي خَطا فيها خطوات جعلته يستحق اللّعن بأقوى صيغة قرآنية (قُتِلَ)، بل يستحق أن يُخبر الله -تعالى- بما أعدّه له من خلال هذا التهديد العظيم الذي جاء مدعوماً ببيان الأسباب، لكي يكون عبرة لمن يعتبر، ولكي يتّضح قدر العقل المُفكِّر بخطوات منهجية في صياغة مصير الأمة، ومصير الفَرد من هذه الأمة.
إن الوليد لم يتسرع بتلبية ما طلبوه مباشرة، إذ:
1-طلب معرفة ما لديهم ، لكي يبني عليه، ولكي يقترح ما هو جديد وجدير باستنجادهم به، من جهة قياسه واستنباطه لمواطن الضعف والخلل.
2-قام بتحليل مقترحاتهم، وتقويمها بالرفض. وهذا الرفض كان مُعلَّلا بطريقة علمية، تُؤكّد أن هذه الشخصية لرجل يُفكِّر، ذهنه حاضر للتوقد في كل حين. لكنْ بالخطوات العلمية البحثية.
3-قام بتعليل تقويمه أو حكمه بعدم صلاحية اقتراحاتهم كالآتي:
أ-كاهن: تنعدم فيه همهمة الكهّان وكلامهم المُسجَّع سجعاً مقصوداً لا ينفصل عن الهمهمة. وهذه الخواص معروفة للقُرشيّين جميعهم.
ب-مجنون: تنعدم فيه الظواهر النفسية، والعقلية، والشكلية للجنون، مما هو معروف للقُرشيّين كلهم.
ج-شاعر: تنعدم فيه سمات الشعر الشكلية والمضمونية، مما هو معروف للقُرشيّين دون استثناء.
د-ساحر: تنعدم فيه ماهيّة السحر الماثلة في العَقْد والنفث، مما هو معروف للقرشيّين كافة.
من الملاحَظ أن الوليد يُعلّل بطريقة خاصة، حيث يعتمد على مراقبة مُتغيِّر واحد، وهو (الماهيّة) أو حقيقة التهمة (الكهانة، الجنون، الشعر، السحر)، لهذا رفض أن يُوصف بما لا يُوافقها، أي رفض مناقضة الذات التي تعلم أن ما يُسمَع من محمد صلى الله عليه وسلم لا تنطبق ماهيّته مع ماهيّة الكهانة أو غيرها. لكن، يبدو أن السحر قد راقه نوعاً ما، ففعّل به مقولته الخاصة التي بناها على مُتغيِّر آخر، وهو (الأثر)، أي أثر السحر المعروف لدى القرشيِّين في الأشخاص، الذي يتوافق -ظاهرياً- مع أثر السحر الذي يرونه يصدر من خلال كلام محمد صلى الله عليه وسلم.
بالتالي، بدأ بالثناء على ما في هذا الكلام القرآني من جمال ظاهر لا يُنكَر، وأكّد أن الكلمة الفصْل ليست بأيديهم، وهم يتعمّدون مناقضة ادّعاءاتهم لحقائق معرفتهم بالأشياء، وتلا ذلك بأن الأقرب -وفي هذا دقة فكرية متناهية وحذر- هو أنه (ساحر). ولم يقف عند هذا الوصف العام، وإنما نهج إلى التخصيص الذي يصنع منه نوعاً جديداً غريباً على معرفة القُرشيّين، فهو (جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته)، وهذا يضمن خصوصية وتميّز مفهومه الخاص لِ (محمد) ولِ (قَول محمد) -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- خلافاً لمفهوم قومه.
لا يخفى ما أضفاه الوليد على هذا النوع الجديد من السحر من خاصيات أكثر ما يُميّزها نوعية العلاقات المتدرِّجة في قوتها بين الأشخاص الذين يقع عليهم أثر هذا السحر، وهو (التفريق)، حيث يتدرّج من الأقرب (المرء وأبيه)، فالقريب (المرء وأخيه)، فالبعيد قليلاً (المرء وزوجه)، فالأبعد (المرء
وعشيرته)، وكلها تقع في نطاق القرابة والصِّلات الاجتماعية السياسية المُتراصّة، والتي لا تُختَرق دوائرها إلا بسحر فائق لأنواع السحر البشري المألوف والمحدود.
هذا المنهج الفطري الذي خطا به الوليد بن المغيرة خطوات قراره هو جوهر استحقاقه لهذا التبكيت والتهديد الرهيب الذي ورد في آيات سورة المدثر، وتحليل الآيات كالآتي:
1-بدأتْ بالتهديد {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}، وقد تعاضدت خمس آيات متتابعة (11-15) للتعريف بهذه الشخصية التي ورد وعيد ربّ العزّة والجلال لها، فالاسم الموصول (مَن) له أربع جمل تُعرّفه: {خَلقتُ وحيدا}، {جَعلتُ له مالا ممدودا. وبنين شهودا}، {مهّدت له تمهيدا}، {يطمع أن أزيدَ}.
2-بعدها، ورد في كلام الله -تعالى- نفي أن يُبارك له فيما أُعطي قبلا، أو أن يُزاد فيه، وورد تعليل ذلك بأنه {كان لآياتنا عنيدا}، وهذا العناد مجهول غامض للآن، يحتاج للكشف والتوضيح، وهو نوع عالٍ من الإنكار والجحود، استحقّ الوعيد مجدداً: {سأرهقه صعودا}، وهذا الرهق الصّعود مجهول للآن يحتاج لتعريف كاشف له أيضاً.
3-ورد في كلامه -تعالى- تعليل هذين الوعيدين: الأول والأخير بأن هذا الوليد قد {فكّر وقدّر }، أي قد أحكم خطوات تفكيره المتسلسلة، فتوصّل لما لم يصل إليه قومه، واستحق أن يُبعَد عن رحمة الله -تعالى- مذموماً {فقُتل كيف قدّر. ثم قُتل كيف قدّر}. وهذا التكرار يثير في الذهن السؤال عن كيفيّة هذا التفكير والتقدير، أي عن تفسيره، وهو ما تلا ذلك.
4-ورد في كلامه -تعالى- تفسير هذا التفكير والتقدير بحركات قام بها الوليد تكشف عن العمليات العقلية التي سبقت الإشارة إليها في سرد القصة، حيث: (نظر) مُتأمّلا ما لدى قومه، ثم (عبس) متّفِقاً معهم في الهدف، قابلاً لتنفيذ ما يريدون، حازماً أمره
للتنفيذ، ثم (بسر) جامعاً أقصى ما لديه من تركيز لاصطياد الادّعاء الأكبر والأكثر نفاذاً، ثم (أدبر واستكبر) مُعتداً بنفسه بعدما توصّل لما هو مرادهم منه، وغاية تنصيبهم له عليهم بقوّته الفكرية التي لا يملكها أحد منهم.
5-لقد كانت النتيجة التي توصل إليها الوليد، والتقويم الذي استقر عليه هو مقولته {إن هذا إلاّ سحرٌ يُؤثر. إن هذا إلا قول البشر}، فذلك السحر ذو التأثير الرهيب، مصدره بشري في رأي الوليد، ليس إلهياً أو من قوى غيبية يخضع لها الإنسان، وبهذا حاول الوليد تحجيم تصوّر القرشيّين لخطر النبي صلى الله عليه وسلم وما معه من القرآن الكريم، لكيلا يتواصل خوفهم، واستنجادهم بمن يُخلِّصهم من ضغوط تصوراتهم الذهنية التي لم تُفلح في دفع ذلك عنهم.
6-تبع هذا وعيد ثالث ورد فيه التعريف بالوعيد الصّعود: {سأصليه سقر}، وتعظيم الله -تعالى- لهذه (السقر) بأن تبعها السؤال عن ماهيتها (تعريفها)، وجاء توضيح ذلك بما تلا: {لا تُبقي ولا تذر. لوّاحة للبشر. عليها تسعة عشر}، وهذا كله تعريف لجهنم الحامية بطريق الكناية عن الشيء بصفاته اللازمة له.
خلاصة خطوات التفكير الفطري:
لعل ما سبق كان موضحاً لخطوات التفكير التي ينبغي اتخاذها، بوصفها منهجية للقراءة، أو التفكير، أو الشرح، والتدريس، من أصغر مرحلة لأكبر مرحلة، فالكثيرون يُظهرون تعبهم من أسئلة أطفالهم التي تُدقّق في كل شيء، وتُكرَّر دون ملل -كما يظهر لهم-، فيما الأمر خلاف ذلك، فعلى سبيل المثال: يُري أحدهم طفلَه (شجرة)، فتنهال أسئلة الطفل التالية: ما اسمها؟ (المصطلح)، مَن سمّاها؟ (صانع المصطلح أو المرجعية)، لماذا سمّاها (شجرة)؟ (تعليل التسمية)، كيف أصبحت هكذا؟ (تعليل البناء
والهيئة)، ماذا تفعل لنا؟ (معرفة الوظيفة)، لماذا نهتم بها؟ (معرفة القيمة)،... إلخ.
وهذه الملَكة الفطرية إذا لم تُنمَّ وتُوجّه، فَقَدَها الشخص، وأصبح لا يستطيع تَفهُّمها حتّى بعد أن تُصبح دروساً يتلقّاها بوضوح، وهذا ما حفّز صاحبة الاقتراح على صياغته، إذ ترى أنه ينتهي إلى التأكيد على ضرورة استثمار هذه الفطرة الربانية الكريمة في توجيه بنية المناهج في المملكة العربية السعودية، وطريقة تدريسها، جنباً إلى جنب مع أسلوب الحفظ والاستظهار المنطقيَّين، لكي تكتسب المعلومة ثباتاً، وتأسيساً على ثقة ووضوح لا يتزلزلان أمام أيّ دعاوى باطلة، أو لَي للمفاهيم والوظائف.
ولعلّ لفتةً لطيفة تتضح من خلال هذا الطرح، وهي أن طريقة التعليم العربية الأصيلة لا تُصادم أو تُعنِّف مَن يختلف المسلم معهم. وإنما الأصل هو التعامل اللطيف، اقتداء بسيد البشرية، الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، كمثل تعامله اللطيف الودود مع اليهود، وهم يرومون الإفساد من خلال حواراتهم وجدالاتهم معه -عليه أفضل الصلاة والسلام-.
لقد تمحورت الخطوات حول:
1-تحديد المصطلح (اسم الشيء): ما اسمه؟
2-تحديد المفهوم (معنى المصطلح): ما تعريفه؟
3-تحديد الهدف (غاية هذا الشيء في سياقه أو في ذاته): ما هدفه؟
4-تفسيره، أو تأويله في حالة الغموض وعدم الوضوح، أو الخصوصية.
5-تعليله، لبيان السبب المتعلق بشيء ما في ذاته أو في سياقه.
6-تقويمه، لبيان قيمته من خلال حُكم يُطلقه الشخص، لا بُدّ أن تتوفر له التعليلات المنطقية.
خاتمة:
نافعاً من جيل الباحثات الأكاديميات السعودي الجديد، شُكراً للاهتمام الذي يَلقَينَهُ في ظِلِّ حُكومة خادم الحرمين الشريفين -متّعنا الله ببقائه وشفائه-، وأن يكون قابلاً للأخذ به عملياً، ولتجريب تطبيقه على مجموعات منتقاة من الطلاب، والطالبات، والمدرسين، والمدرسات، يجري تجريبهم عبر هذا الطرح في كنف إحدى المدارس أو الجامعات المهتمة بالتطوير والقادرة على توفير إمكانات جيدة لذلك، ولديّ الاستعداد للتزويد بأسماء الأساتذة والأستاذات الذين استفدت منهم خطوتي هذه، وهي -بالتأكيد- أقل كثيراً من قدراتهم -رعاهم الله وأثابهم- مع إمكان مساهمتي بتطبيقات أخرى للجنة تطوير المناهج التعليمية التربوي على قصص للأطفال -خاصة- لإثبات أن هذه الخطوات موجودة فطرياً، لكنها تحتاج للتنظيم، والتفعيل، والتكثيف، تفعيلاً لسياج الأمن الفكري الذي نُجنّد أنفسنا لتجذير أسسه، ومَدّ مساحاته حول مجتمعاتنا الإسلامية.
والحمد لله على جليل نعمه، وصلى الله وسلم على حبيبه المصطفى وعلى آله وصحبه وسلّم.
1- تقديم وتحقيق: جمال الدين العلوي، تصدير: محمد علال سيناصر، (جامعة سيدي محمد بن عبد الله، مركز الدراسات الرشدية، فاس، سلسلة المتن الرشدي - 1 -)، ط1، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1994م).
2 - معجم مصطلحات الأدب، مجدي وهبة، (بيروت: مكتبة لبنان، 1974م)، ص38
3 - ينظر: (التفكير المنهجي وضرورته)، د.فتحي حسن ملكاوي، إسلامية المعرفة، السنة7، العدد 28، ربيع 1423 هـ، ص17
4- ينظر تفسير الآيات في: تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 4-471 - 473، ط1، (بيروت: دار المعرفة للطباعة، والنشر، والتوزيع، 1415هـ).
5- مُختصر سيرة ابن هشام: السيرة النبوية، إعداد: محمد عفيف الزعبي، مراجعة: عبد الحميد الأحدب، ط2، (جدة-حمص: دار العلم للطباعة والنشر- مكتبة المعرفة، 1402هـ)،ص46
6- الاعجاز في نظم القرآن، محمود السيد شيخون، ط1، (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1398هـ)، ص8-9
7- نفسه.
* جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية /معيدة في قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
|