Thursday 22nd July,200411620العددالخميس 5 ,جمادى الثانية 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

أحلام جيل بدأ يشد الرحال أحلام جيل بدأ يشد الرحال
د.فوزية عبد الله أبو خالد

حين تتقصف الأغصان ويبدأ رحيل جيل ممن فتحنا عيوننا على أحلامهم أو ممن اشتركنا معهم في ملح وخبز الحلم هل لا يصير لنا إلا رحمة أن نترحم على أرواحهم وحرقة أن نبدأ في اتخاذ قرارنا الأخير؟ أو ترانا نملك جرأة مواصلة الأحلام واجتراح أحلام جديدة؟، ولكن هل حقاً من خيار حر يخرجنا من الانحدار الشديد خارج التاريخ؟.
فدوى طوقان
أمل جراح
محمد القيسي
عبد الرحمن المنيف
أمل جراح
إدوارد سعيد
عبدالعزيز المشري
هل بكينا على رحيلهم إلى أن سقت دموعنا الأرض التي عاشوا لعشقها وماتوا على عشقها وفاء لمشترك ذلك العشق، أم بكينا غيرة من ذلك العشق الذي فتك بهم وتركنا نشقى بأثقال القلب وحدنا؟.. فنبكي مرة على موتهم ومرة على عدم قدرتهم على الغياب رغم الفراغ المريع الذي رمونا في فلاوته.. ومرة لأن المشوار لم يبتدئ بهم ولن ينتهي بنا دون أن ينال أي منا من عذاب ذلك العشق إلا فسحة أو ضيق قبره.
هل حقاً توقفنا قليلاً وبكينا على أفول جيل كامل ونجومهم تتشهب نيزكا نيزكا وقد تآكلت أكفهم في شرخ الشباب قبل ميوعة العمر أو عند هاوية النهاية أو أننا لم نجد وقتاً للبكاء لانشغالنا بفجائع جنائز طازجة تطل علينا من الفضائيات صبح مساء دون أن يتاح لنا التمييز بين جثث جيلنا وجيلهم والأجيال التالية؟.. كيف يبكي الحالمون على الحالمين حين تحين آجال عدة في هذا المشهد المهرجاني الجماعي وهم يحسبون أنهم يذهبون فرادى على حين غرة؟.
على من عسانا نبكي عليهم أم علينا على ذلك الجيل وأحلامه المؤجلة أو على أجيال صار منتهي أحلامها أن تحلم بأن تحلم في هذا المزاد من حطام الأحلام والأحلام المحنطة أوالمذبوحة في صدورنا وصدروهم.من حسن أو سوء الحظ أن لي في هذه الأسماء عدداً من الأساتذة والأصدقاء مما يحرمني حرية الحزن عليهم بالحياد العقلي لقارئ يقدر تلك الأجيال سواء ائتلف أو اختلف مع إنتاجهم دون علاقة قد تسمح للموت بابتزازه عاطفياً بسبب فجيعة فقدهم ويورطني في حالة من الشعور الشرير بقسوة الفراق الأبدي.فهذه الشاعرة أمل جراح لا تبرح قبل انتقالها إلى رحمة الله إلى ما يطول أو يقصر من عمري تحاصرني بتعدد أطيافها.. فمن أمل جراح تلك المرأة الدمشقية الحاتمية وقد صار بحرية لغربة الطالبة السعودية الصغيرة القادمة من حرقة الصحراء بحثاً عن موارد الماء في الجامعة الأمريكية وما ضج حولها وقتها من بحور الشعر ومفازات الإبداع إلى أمل الماوية كنهر كهرمان لا يعرف إلا الجريان فلا تمل مني ومن صديقاتي اللواتي مثلي أفتتن بها شاعرة وإنسانة وخاصة صديقتي من البحرين مريم البلوشي وصديقتي من الجنوب اللبناني ليلى حسون وصديقتي من جدة ليلى الضليمي.. ومن أمل المتألقة في الأمسيات قمراً يحالف شعر المقاومة علنا على رؤوس الأشهاد إلى أمل جراح أم بسام ولينا التي تلف عرائس اللبنة والزعتر برقائق قلبها الرقيق.. وتتدفق عشقاً وشعراً وحناناً كلما وضعت يدها في يد ياسين رفاعية ومضى العاشقان يسقيان أصيص الياسمين والزهر البري والريحان المتدلية من شبابيك شقتهم إلى كعب العمارة والمعلق منها كقناديل خضراء على أرفف المكتبة الممتدة على اليمين من مدخل بيتهم بمجرد أن يفتح الباب وتفوح رائحة بساتين الشام.. ومن أمل جراح بطبيعتها الملائكية حين لا تشف شفتاها إلا عن كلام شفيف يكاد يكون مناجاة أو وشوشة في أحلى وأحلك الأوقات للبعيدين والأصدقاء على حد سواء إلى أمل بليل شعرها الخليلي وسواد عيونها النفاذ وجمالها الغجري الأندلسي الممزوج بأخيلة الحوريات، وهي تبرق وتمطر حيناً شهداً مصفى وحيناً أقراص عسل بشمعه من قصيدة النثر.. من أمل جراح وهي تترنم بأغاني فيروز القديمة في خلاوتها المسروقة من شقوق الوقت والمسؤوليات المنزلية والتنقل بين العيادات الطبية (ياريت أنت وأنا بالبيت شي بيت أبعد بيت...) وسهار بعد سهار.. و(ما في حدا لا تندهي ما في حدا بابم مسكر والعشب غطا الدارج)، إلى أمل يلقاها قلبي على أرض العراق أو نستعير ليالي الدفئ العائلي مع أسرتها وأسرتي في زمن لاحق من أمسيات عابرة في ضباب شوارع لندن أو في دخول أحد أطيافها اللامتناهية عنوة إلى الرياض.. فهل أصدق أن أمل رحلت أم أصغي إلى حفيف عطرها يمرق بيني وبين لوح مفاتيح المحمول فأنهض من حزني ووجدي لأفتح لها الباب؟.
أما الشاعرة فدوى طوقان فلم يبتدي حبي لها حين التقيتها ببشرتها الحليبية وعيونها اللوزية ومحياها المتقطر سماحة وسحر طفلة رهيفة في الثمانين من عمرها، بمدينة مسقط بعمان في مهرجان الخنساء الشعري، وهي تحمل شمسيتها البيضاء بيد تشبه مدة الغصن وتصر أن تظلني من وهج الشمس.. وكأنها تعلم أنني كنت أمشي بين شمسين فتشفق عليَّ من طيش الشعر وإن كانت ربّما لا تعلم أنني كنت مستعدة بكل عنفوان عشق الشعر الفوار في عروقي أن أمشي حافية على تلك الحافة التي كانت فوق درجة الغليان بمحاذاة البحر في الطريق من مسقط إلى السرقاق مدى العمر ما دمت بصحبتها في رحلتها الجبلية التي كنت لا أستطيع أن أمنع نفسي من وساوس الخوف بأنها قد تكون واحدة من آخر المحطات.. غير أن حبي لها ابتدأ من نعومة أظافري في رحلتي الصحراوية الشخصية باستعارة التعبير الجغرافي للشاعرة فدوى طوقان الذي لابد أنها اشتقته من علاقتها الافتتانية كفلسطينية بالمكان ولوعة التيه فيه وبعيداً عنه.. فقد كنتُ بمدرسة حي الرويس الخامسة الابتدائية بجدة أشاغب وأتفنن في الشيطنة وقفز الحبل ولعبة الخطة والبربر وتلصيق (العلك النفاخ) خلسة على كراسي المعلمات حين أحضرت إحدى الزميلات الأقل شغباً والأكثر هدوءً معها وهي طالبة فلسطينية أسمها فريال جريدة أو مجلة لا أذكر ولم أكن لأفرق بين المطبوعتين وقتها، وكانت تحمل أول قصيدة قرأتها في حياتي لفدوى طوقان وربما كانت أول قصيدة أقرأها من الشعر الفلسطيني فحملتني تلك القصيدة على حب فدوى وتتبع شعرها بشغف شديد منذ ذلك اليوم الموغل في الابتعاد.. ولازلت أذكر ذلك الشعور المفعم بالثقة والاعتزاز الذي مررت به ثلاث مرات مرة حين أقنعت مدرسة الرياضيات أ. أحلام عزب وكانت مشرفة على حفل تخرج المرحلة الثانوية بأن أقرأ في الحفل قصيدة فدوى طوقان (أمام الباب المغلق) ومرة حين قرأت قصيدتها (الحرية) عام 1994م في لقاء عالمي بمدينة مالبورن بأستراليا ومرة حين ضحكت الشاعرة فدوى طوقان بكل وقار بكل عمرها وكل رغوة طفولتها وأغرورقت عيونها بالدموع وأنا أخبرها بأمر القراءتين.. على أني حين علمت بموتها يوم الخامس والعشرين من شهر نوفمبر وكنتُ لمفارقة الصدف غير بعيد عن مثواها الأخير في ورشة عمل وأمسية شعرية بالبترا في الأردن حاولتُ أن أتصبر على فجيعة رحيلها بأن غيرتُ بسهر ثلاث ليال متواصلة دون قطرة نوم موضوع محاضرتي في مجلس الثقافي البريطاني بالرياض إلى محاضرة عن حياة تلك المرأة في رحلتها الجلية الصبة كما ترجمتها إلى الإنجليزية صديقة الشعر والشاعرات الشاعرة د. سلمى الجيوسي.. فكان أن صحبت الحاضرات في تلك الرحلة منذ أن حملت أمها بها الذي صادف السنة التي صدر فيها وعد بلفور قبل ميلادها بعام 1917م إلى النتائج المريعة لذلك الوعد اللصوصي الذي انتهى بسقوط القدس مسقط رأس الشاعرة في يد الاحتلال الصهيوني إلى اليوم الذي غادرت فيه أرضها قابضة على تراب تلك البقعة الطاهرة.. وقد قمت بمقارنة تلك الرحلة العشقية بصبابات ثلاث شاعرات علميات نفس جيلها الحرون ومنهن الشاعرة التشيلية جابريلا ماسريال الحائزة على جائزة نوبل في السبعينات.. فكانت روح الشاعرة فدوى طوقان واحدة من أرواح الحرائر التي تاقت إلى الحرية في وقت باكر من القرن الماضي، ولعل فدوى رحلت بحثاً عن تلك الحرية في مكان أرحب وأرحم بإذن الرحمن.
ربما الموضوع يكمل الخميس المقبل.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved