في أشهرٍ فائتة خاض المجتمع بكافة أطيافه معركة شرسة ، وقضى ليالي عصيبة، أوشكت في هذه الأيام أن تنحسر وتحسم على نحوٍ مما كنا نتوقع ونجزم به ، ولاشك أن هذه المعركة بكل الأبعاد التي روجت لها فتحت للقيادة منافذ لمجابهة الموقف ، وتحري مواطن الخلل ، والوقوف على مصادر وموارد تلك المشكلة بصورة تجعلنا نطمئن كل الاطمئنان بعدم ظهورها لعقود من الزمن على الأقل ، وإن برزت - لاقدر الله - فستكون بثوب آخر وشعار جديد.
وأي متابعٍ للأحداث بعين البصيرة سيخرج منها بدروس وعبر، ومواعظ وحكم في الحياة الخاصة أو العامة ، وربما التفت إلى ما كان غائباً عنه لعقود. وما الحياة بتقلباتها وحوادثها ، وسلمها وحربها إلا مدرسة نتعلم منها ونستفيد.
* مع هذه الأحداث الجسام بتُ على قناعةٍ أكثر من أيّ وقت مضى بجدوى وخطورة السلاح الذي تمتلكه وسائل الإعلام سلباً أو إيجاباً في قيادة المعارك أو الحركات ، سواءً كانت ضد منظمات داخلية خارجة على النظام، أو تمثلت بأي قوة أخرى معادية.
* رأينا كيف أثارت مناظر أسرى ( أبو غريب ) الرأي العام في دول الغرب ، وغذّ ت الحميّة المناهضة للنزعة العسكرية، سواء كان على مستوى مؤسسات الدولة الرسمية، أو على مستوى الجماهير بمنظماتها الخاصة. ومن قبل ذلك، كيف استطاع أحد هواة التصوير التقاط منظر شرطة ( لوس انجلوس) ، وهم يضربون بعنف رجلاً أسود ، مما أثار أعمال شغب واسعة النطاق أوقعت من الأضرار والضحايا ما توقعه حربٌ صغيرة. ورأينا كيف استطاعت فتاة ( كويتية ) إبان حرب الخليج الثانية من استقطاب أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي ، حين اتهمت جنود الاحتلال العراقي بقتل أطفال محاضن المستشفيات ، وسرقة المحتويات. ورأينا كيف استطاع بوش ( الأب ) أن يستميل بعض شعوب العالم الإسلامي ، ويضفي على حربه مع العراق صفة العدالة؛ حين اتخذ من عبارة دينية بداية لحربه على العراق ، ليقول (( ليبارك الله أمريكا)) ، فتتلاشى من أذهان البعض الصورة المادية والإلحادية المرسومة عن أمريكا، فالرئيس لم يقف عند هدف استقلال الكويت ، وحماية مصادر نفط الغرب ، وإزالة التهديد المحتمل لدول الخليج حينذاك , أو الخوف على مصير الحضارة الأمريكية نفسها من مخططات حزب البعث.
* ولم يكن مؤلف كتاب ( أشكال الصراعات المقبلة) ببعيد عن الصواب حين قال : إن الناس باتوا يعرفون أن جزأً من المعارك الأكثر أهمية في المستقبل ستدور رحاها فوق حلبة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ، وستوظف التقنيات والوسائط الإعلامية في تحويل ماهو غير حقيقي إلى حقائق. وكم لعبت دعاية حاذقة انطوت في بعض فصولها على شيء من الصدق في كسر أو إقامة تحالفات بناها السياسيون لسنوات ، أو حاولوا هدمها.
* وليس ببعيد عنا الأثر السلبي الذي أحدثه إعلام الفئات المنحرفة - على ضيق مجاله - في تزايد حالات القلق والاكتئاب والمرض النفسي لدى بعض الأطفال والنساء في المملكة العربية السعودية والذين صدموا بمشاهد العنف والقتل والتدمير، كما أوردت ذلك إحدى صحفنا المحلية.
* وفيما يبدو لي أن القوى المعادية ، إن صحّ تسميتها قوة ، يقوم إعلامها الخفي على خمس مرتكزات حاولت أن تزرع من خلاله انفعالاً هائجاً بين الجمهور العاطفي ، وإن كان محدودا. هذه المرتكزات تتمثل بالآتي :
* الأول : اتهام الطرف الآخر بالفضاعة ، وسلب صفة الإنسانية عنه، وهذه تعد المادة الأولية لدعاية الحروب أيّاً كان مستواها، إذ من شأن هذه التهم تحريك الأوتار الحساسة ، لتعزف عليها الأكاذيب.
* الثاني : التضخيم المبالغ فيه تجاه ما يتعرض له بعض الأفراد والشعوب من تنكيل أو تهجير، أو غير ذلك من صنوف الاضطهادات التي تمارسها بعض الحكومات.
* الثالث : التشكيك بكل مايصدر من بيانات أو إصلاحات من الطرف الآخر بهدف خلق لا صدقية مطلقة ، مما قد ينطلي على بعض الفئات البسيطة في التفكير.
* الرابع : الانتصار لقيمة من القيم أو لمبدأ من المبادىء، أو رفع بعض الشعارات الدينية للتغطية على الأهداف والأغراض الدنيئة الأخرى.
* الخامس : دعاية الاستقطاب، والعمل تحت شعار ( من ليس معنا فهو ضدنا)، والانطلاق منه إلى معاداة أو موالاة الآخرين.
* هذه خمسة محاور شيطانية لإفساد العقول، والتضليل على الناس، تهدف إلى بعثرة السلطة، وإضعاف ثقة المجتمعات بها وتأليبها عليها.
* ومع ذلك، ففي اعتقادي أنه ، وكما أن لتضخيم إعلامنا لنواتج العمل الإجرامي من حسنات تكمن في كشف خطورة هذا المزلق للفئات المنحرفة، وضرورة مجابهة إعلامهم بإعلامٍ أقوى وأكثر نفذاً، ألا أنه قد يجر بعض المشاهدين إلى اعتبارات قد لا تكون في حسباننا ، إذ ربما بنينا لهم من خلال هذه المشاهد الرهيبة قوة وهمية ، ومقدرة فائقة في المقاومة ، مع عدم التكافؤ بين القوى من قريب ولا من بعيد، لكنها صورة قد تستميل السذّج من الناس بجرهم إلى معسكرهم ، وتفت من قناعاتهم بهشاشة فكرهم ، وضعف تنظيم هذه الجماعات الحركية. والشعب السعودي بوجه خاص - ولله الحمد - قد لايحتاج في تعرية أصحاب هذا المنهج وكشفهم إلى هذا الزخم الإعلامي ، وبخاصة المرئي منها ، وربما كان في طي هذه الصفحة السوداء، والتخفيف من لمزها وغمزها ما يتفق مع المكرمة الملكية والعفو والتسامح لمن تاب وأناب ، والتزم جادة الصواب.
|