من القرارات ما هو غير تقليدي كالقرارات الاستراتيجية.. وهي قرارات تتصل بقضايا متشعبة ومترابطة ومتداخلة.. ذات أبعاد متعددة.. وعلى جانب كبير من العمق والتعقيد.. والأصعب والأهم من كل ذلك أنه يجب اتخاذها في الوقت المناسب.. مع الأخذ بكامل الاعتبار أن تلك القرارات تتطلب البحث المتعمق والدراسة المستفيضة والمتخصصة.. التي تتناول جميع الافتراضات والاحتمالات وتناقشها.
والقرارات المصيرية لا شك في أنها من القرارات الاستراتيجية.. التي ينبني عليها نتائج كبيرة وخطيرة.. ذلك أنها تحدد المصير في المجال الذي تتخذ فيه.. سياسياً كان أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً.. كما أن عدم اتخاذ القرارات المصيرية في وقتها يعتبر قراراً مصيرياً خاطئاً.. إذ يقول علماء الإدارة: إن عدم اتخاذ القرار في وقته المناسب هو قرار خاطئ.
وعند تأملي لما نعيشه اليوم من ظروف معقدة اختلط فيها المشهد الداخلي بالمشهد الخارجي.. وبسرعة أحداث لم تخطر على بال أحد.. فلا نكاد نفيق من صعقة حتى نتلقى الأخرى.. فمن أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى سقوط كابول ثم سقوط بغداد ثم الإرهاب المحلي على يد أبنائنا.. مروراً بالجدار العازل والذبح المستمر في فلسطين.. وأخيراً مشروع الشرق الأوسط الكبير.
أقول عند تأملي في كل ذلك تذكرت الملك فيصل بن عبد العزيز يرحمه الله.. ذلك الملك الذي افتخر به كسعودي إضافة لكونه رمزاً وطنياً كملك.. افتخر به كقائد اتخذ قرارات مصيرية في وقتها المناسب.. قرارات ننعم اليوم جميعنا بنتائجها.. علمنا ذلك أم لم نعلم.
لقد قاد الملك فيصل سفينة البلاد في بحر لجي متلاطم الأمواج وأوصلها إلى بر الأمان.. قادها حينما كان يغلب على أهلها البدائية والأمية.. وفي وقت كانت تجيش فيه الشعوب العربية بأيديولوجيات شرقية وغربية تراوحت بين الشيوعية والاشتراكية والقومية والبعثية والرأسمالية.. حتى وصل ببعض العرب أن جعل الأيدولوجيا وطنه وسخر لذلك نفسه.. حتى لو كانت الضحية وطنه..
وتعرضت المملكة حينها إلى الحرب العسكرية المباشرة وإلى الحرب الإعلامية.. وما بينهما من تفجير في صناديق القمامة والمساجد.. انتهت بإعدام (9) منهم في يوم جمعة مشهود.. وفي ذلك الوقت أيضاً كان الصراع العربي الإسرائيلي المسلح في أوجه.. مما جعل الحياة العربية كلها تغلي.
* ما هي تلك القرارات المصيرية؟
- على المستوى المحلي.. كان قرار تعليم البنات.. رغم المعارضة الداخلية الشديدة.
- وعلى المستوى الإسلامي.. كان تبني مشروع التضامن الإسلامي.. رغم هيمنة التيار القومي العربي.
- أما على المستوى الدولي.. فهو قطع إمدادات النفط عن الغرب واستخدامه كسلاح في الحرب العربية الإسرائيلية.
* فما هي النتائج التي ترتبت على كل ذلك؟
بالنسبة للقرار المحلي بفرض تعليم البنات.. لا يحتاج الأمر إلى إطالة.. النتيجة كانت نقل نصف المجتمع من ظلام الأمية إلى نور المعرفة.. وكفى بذلك نتيجة.
بالنسبة لمشروع التضامن الإسلامي.. فقد وحد الكلمة الإسلامية خلف قضية فلسطين.. ونسق بين حكومات العالم الإسلامي بشكل عميق وكبير.. وبدرجة لم تكن مسبوقة.. والمتفق عليه ان جزءاً كبيراً من التفاهم الإسلامي القائم حالياً هو حصاد زرع مشروع التضامن الإسلامي.
أخيراً قرار الملك فيصل -رحمه الله- على المستوى الدولي.. أي قرار قطع النفط عن الغرب.. هذا القرار مثال للقرارات المصيرية الذي اتخذ في ظروف غير مؤكدة.. فالمخاطرة فيها كانت عالية.. هذا القرار كان يمكن أن يكون نهاية المملكة العربية السعودية.. وكان ذلك احتمالاً وارداً جداً في ذهن الملك فيصل بلا شك.
الآن ما هي نتائج ذلك القرار؟.. تقول الوثائق: إن النتائج الفورية هي استخدام ورقة رفع حظر البترول كأداة ضغط على أمريكا والغرب.. للضغط على إسرائيل لفك الاشتباك على الجبهة السورية.
أما حاضرنا فيؤكد أن ذلك القرار قفز بالتنمية في المملكة وفي المنطقة كلها درجات أعلى بكثير عمّا كانت عليه قبل الطفرة النفطية.. التي حدثت نتيجة ارتفاع أسعار البترول إلى أكثر من عشرة أضعاف.
ما أشبه الليلة بالبارحة.. فالمملكة تمر بظروف انتقالية هائلة.. وإذا كانت أحداث 11 سبتمبر نقلت العالم كله من حالة إلى حالة أخرى.. فماذا نقول نحن السعوديين ونحن الذين في عين العاصفة؟!.
أضف إلى ذلك الإرهاب.. هذا الداء القاتل المخيف.. لا شك أنه نقلنا كمجتمع فكرياً نقلة هائلة.. ولا شك أننا مقبلون على فترة مختلفة جداً.
ماذا لدينا؟.. وماذا ننتظر.. سؤالان الإجابة عليهما قضية مصيرية.. وإذا كانت المملكة في ذلك الحين لم يتشكل ثقلها الاقتصادي ولا السياسي.. واستطاعت تجاوز تلك الفترة التي آذت كل بلدان المنطقة تقريباً.. إني واثق أن بلادنا سوف تتجاوز هذه الفترة وهي أكثر قوة وأكثر عافية.
نحن في حاجة إلى قرارات مصيرية.. وهذا هو وقتها المناسب في رأيي.. وكلّنا ثقة بولاة الأمر.
|