حمداً لله على ما أصاب.
وحمداً لله على ما أنعم.
ومثلما ألمنا للعارض، سعدنا بجلائه، وهكذا الدنيا فيوض من الأفراح والأتراح، وما كنا قادرين على احتمال أي حدث محزن، ولا سيما في ظروف تداعت فيها الأيدي الآثمة على مثمنات البلاد وأهلها، وإن كنا لا نقدر على رد القضاء، ولا نملك إلا الصبر والاحتساب وسؤال اللطف فيه. وكم تكون الشدائد خيِّرة معطاءة، لما تكشفه من معادن الرجال وقيم المجتمعات، ولما تعود به من فرج؛ إذ لا فرج إلا بعد شدة، ولن يغلب عسر يسرين، وما العارض الصحي الذي ألمَّ بالأمير العزيز (سلطان بن عبدالعزيز) إلا حلقة في سلسلة الابتلاء الذي يتعرض له الأفراد والجماعات والكيانات، وما هو إلا مجسٌّ تبدت فيه قيم نعرفها من قبل، ولكننا لم نكن نتصورها بهذا الحجم:
- تلاحم أسري.
- وتلاحم شعبي.
- وتقدير عالمي.
وبقدر ما أفزعنا الحدث، وتشعبت بنا قراءاته وتنبؤاته إلا أن فيوض المحبة أسعدتنا، كما سرتنا بوادر التظاهرة الإنسانية التي أحيط بها سموه من أشقائه وأبناء وطنه ورجالات العالم، وكل ما أفرزه العارض من اهتمام: محلي أو عربي أو إسلامي أو عالمي تحال قِيمه إلى الأمة التي أنجبت المحتفى به، وإلى الشعب الذي ينتمي إليه، وإلى السياسة المتوازنة التي تتصف بها مؤسسات البلاد، وهو رجل فاعل من خلالها، وما من أحد إلا ويتمنى أن يرى مكانته في النفوس، ويسمع شيوع ذكره الحسن على كل لسان. و(الذكر للإنسان عمر ثانِ). وما تَقاطُرُ الملوك والرؤساء وكبار الشخصيات على جناح سموه إلا تجسيدٌ عملي لمكانة البلاد ورجالاتها ووزنها الرزين في المحافل الدولية. وفي مثل هذه المظاهر تختلط مشاعر الزهو بمشاعر الخوف، حتى لا يكون بينهما برزخ فاصل.
ومثلما فزع (المتنبي) بآماله إلى الكذب من الخبر الذي طوى الجزيرة حتى بلغه فزعنا للأنباء المفاجئة عن الوضع الصحي لسموه الكريم، ولما لم يدع صدقه أملاً، عللنا أنفسنا بما صاحب ذلك من تدافع رجالات العالم للاطمئنان على صحته. وللعارض وتبعاته تداعياتهما وأثرهما في اضطراب المشاعر بين إشفاق واشتياق، غير أن ألسنتنا لم تتعثر في أفواهنا، كما تعثرت في فم المتنبي، بل أكثرنا من الحمد والشكر والدعاء أن يذهب بأس سموه، وأن ينعم عليه بالشفاء العاجل. ولا شك أن المحبين لسمو الأمير، العارفين بأفضاله، لا يحتملون ما تعرض له من وضع صحي أطال غيبته عن كافة المشاهد التي هي أحوج ما تكون إلى مثله، وليست لأحد القدرة على رد ما أراد الله، ومع كل ذلك يبتهج المحبون لسموه بهذا الاحتفاء المنقطع النظير، والتظاهرة التي قادها الأمير الإنسان (عبدالله بن عبدالعزيز) بزياراته المتكررة، بددت الخوف، وقوَّت العزمات، وخففت الآلام.
وتعرض سموه لهذه الوعكة، وما استدعته من تدخل جراحي في ظروف ضاغطة: محلياً وعربياً وعالمياً، وما تطلبته من فترة للنقاهة امتدت كأطول ما يكون الامتداد، وهي مدة أثارت الكثير من المواقف والتوقعات والهواجس، فما كان هناك متسع من الجهد، ولا فائض من الطاقة لاحتمال مزيد من المفاجآت غير السارة، وما كان من إجراء عملية جراحية ناجحة لسموه أدخل المهتمين بالشأن المحلي في دوامة من التساؤل والترقب، فما كان من السهل احتمال مثل هذا النبأ في ظل هذه الظروف العصيبة التي تجتاح العالم بأسره، وينفذ إلينا دخنها معكراً صفو أمننا واستقرارنا وسائر شؤوننا، ورجل مثل النائب الثاني لا يمكن الاستغناء عن مثله في ظل هذه الأوضاع المستحكمة.
فتعرض مسؤول بحجم سموه لحالة مرضية قد تبطئ بعودته إلى وضعه الطبيعي ومواصلة أدائه إلى جانب أشقائه ومواطنيه، والغياب الاضطراري سيترك أثراً في نفوس عارفيه ومحبيه، وسموه الذي شهد ما يكنه الناس له سيكون أرفع معنوية، وأقدر على مواجهة العارض وتحمل عقابيله، والمهتمون بوضعه الصحي تغمرهم السعادة من خلال التطمينات التي بثتها المؤسسة الصحية، وبعد أن تشرف بالسلام على خادم الحرمين وولي عهده الأمين تمهيداً لعودته إلى قواعده سالماً معافًى.
وانعكاسات الحدث وأثره على نفوس المواطنين عبرت عنه الزيارات المتكررة لسمو ولي العهد يوم أن كان طريح الفراش، ومن المبشرات أن الله لن يتر المؤمن الذي عرفه في الرخاء عمله، وأمر المؤمن كله عجب، فإذا أقعده المرض عن فعل الخير، كتب له ما كان يعمل من قبل، وإذا شِيك كتب له أجر ما يناله من ألم، وكل مسلم مرتهن بمرض أو أي عارض تمضي صدقاته الجارية في تعويض ما فات، وتمضي نيته الصالحة في كسب الخير، ولا شك أن وقع الحدث أشد أثراً على آلاف المستفيدين من فيوض إحسانه، من فقراء ومساكين وغارمين وأرامل وأيتام ومرضى، فوجئوا بهذا العارض على غير توقع، وكل مَن قيدهم إحسانه: (ومَن وجد الإحسان قيداً تقيَّدَا) يمطرونه بدعائهم الصادق، سائلين الله أن يذهب عن سموه البأس، وأن يكتب له الأجر والعافية، وأن يسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة؛ ليستأنف سعيه في دروب الخير والعطاء، ويستأنف عمله في تصريف شؤون أمته عضداً قوياً وأميناً لأخويه اللذين شملاه بالعطف والرعاية وكل الذين يحملون همَّ أمتهم ويعرفون أوضاع المعوزين يشاطرون المشمولين بأفضاله فرحتهم.
وكم نحن متفائلون وواثقون ببشارة الصادق الأمين: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء).
والصدقات والأقدار تصطرع بين السماء والأرض، والصدقة تطفئ غضب الرب، وهي برهان على صدق الإيمان، وما من ساعٍ في حاجات الناس إلا وله مَن يسعى في حاجته، وكم هو الفرق بين سعي الله وسعي المخلوق، وعلى الذين أنعم الله عليهم من أهل الدثور والوجاهة أن يقتدوا، وأن يكبحوا جماح النفس الأمَّارة، وأن يبادروا بالإنفاق من مال الله الذي آتاهم، وأن يبذلوا ما أنعم الله به عليهم من الوجاهة، لتسهيل مهمات ذوي الحاجات. والمؤمن المفعم بحب عباد الله، العامر القلب بفضائل الأخلاق، يحبه الناس، وهذا الحب العفوي يحفزهم على الدعاء له بظهر الغيب ممن يعرفه وممن لا يعرفه، وممن شمله بإحسانه وممن سمع عن كرمه وإحسانه، وأبواب الله مفتوحة، وقد وعد بالاستجابة وطمأن بالقرب، وكم من رجل لا يُؤبه له لو أقسم على الله لأبره، والله عند وعده، ومَن أوفى بعهده من الله، ولقد قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
وما من مسلم سعى الأمير في حاجته إلا ويلهج بالثناء والدعاء، وكل مسلم عامر القلب بحب الخير لعباد الله مستغنٍ بما أنعم الله به عليه عما سواه يحب مَن أحب العباد، ومن ثَمَّ يكون الدعاء من أسير الإحسان ومن حبه للآخرين، وإجماع الناس على الحب والثناء يوجب القبول، وفي الحديث قصة الميتين اللذين مرت جنازتاهما على الناس، فأثنوا على واحدة، وذموا الأخرى، فما زاد الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله: (وجبت، فالناس شهود الله في أرضه). وقوله تعليم واستنهاض.
والسعيد السعيد مَن سلم الناس من لسانه ويده، فكيف إذا طال الناس الإحسان من يده، والكلم الطيب من لسانه، وفاق برأيه وحكمته ومحتده وطلاقة وجهه. وتلك التظاهرة الاحتفائية تذكرة لمَن قعد بهم التسويف ممن أفاء الله عليهم بالمال أو بالجاه أو بالعلم أو بالمسؤولية، أو بهم جميعاً أو ببعضهم، وما أكثر ما يحول الشيطان بيننا وبين فضائل الأعمال، وكم يَعِدُنا بالفقر، ولو عرف المسوِّفون أنهم سيأتون الله فرادى تاركين ما خوَّلهم وراء ظهورهم لكان أن هانت عليهم نفوسهم ووجاهاتهم وأموالهم ثم تسلطوا عليها ينفقونها لإقالة العثرات وسد الفاقات.
لقد حرصت ألا تفوت مثل هذه الفرصة دون موعظة وتذكير، فلسنا مادحين، وليس سموه متطلعاً إلى المدح، ولكنها المناسبات السعيدة تحمل على الحمد والشكر والدعاء.
وهذه الوعكة التي ألمت بسموه ثم أنعم الله عليه بالصحة والعافية وأعاده إلى حيث كان ساعياً في حاجات الناس وحاجات وطنه، استدعت ما كنا نحفظه من عيون التراث العربي، وليس بدعاً أن تتداعى المتشابهات، وليس أقرب إلى الذاكرة من تلك الرائعة التي قالها أبو الطيب المتنبي بعدما عُوفي مثله الأعلى (سيف الدولة):
المجد عُوفي إذ عُوفيت والكرمُ
وزال عنك إلى أعدائك الألمُ
صحَّت بصحتك الغارات وابتهجت
بها المكارم وانهلَّت بها الدِّيَمُ
وما أخصُّك في برء بتهنئة
إذا سَلِمْتَ فكل الناس قد سلموا
فالمتنبي استدعى مكارم الأخلاق وخصال البطولة والإقدام وسداد الرأي، ومَن لم يكن ذا يسار وجاهٍ فقد وجَّهه المتنبي الوجهة السليمة:
(لا خيل عندك تهديها ولا مالُ
فليسعد النطق إن لم تسعد الحالُ)
لقد كنا في (جدة) يوم أن كان سموه على السرير الأبيض يتلقى فيوض المهنئين، وكان مرتَّباً لوفد (جامعة القصيم) أن يلتقي بولي العهد وسموه وسمو وزير الداخلية غير أن فترة النقاهة حالت دون ذلك، ولما يزل محبوه في (القصيم) يترقبون ما عوَّدهم عليه من زيارة سنوية أخوية، يطلع فيها على أحوالهم، ويلبي مطالبهم، ويزور أعيانهم.
اللهم أنزل لنا القبول في الأرض، واستعملنا في طاعتك، وشدَّ أزرنا لنسعى في حاجات عبادك، وجنِّب بلادنا وقادتنا وكل مخلص لدينه ووطنه غوائل الدهر وفجاءات النِّقم، فأنت وحدك مجيب المضطر إذا دعاه، وأنت وحدك كاشف السوء.