كنتُ قد ائتنفتُ يوم الثلاثاء في العدد (11604) رداً طويلاً على امرئ كان ردّ عليّ من قبلُ، ومن أجل أن ردّي عليه طويلٌ فإني قد جعلتُه على جزأين متداركين، وها هو ذا الجزء الأخير من الردّ، وأنا أعتذر إلى الإخوة من تبيين البيّنات، ولكن هذا قدري، والله المعين، فهاؤم اقرؤوا الردّ:
5- ذكر آيات القعود واحتجّ بها على أن القعود بعد قيام، وهذا تحصيل حاصل، فإني رأساً لم أنفِ هذا، ذلك أن قولي هو إنهما مترادفان فأيّ منهما استعملته أغنى عن صاحبه، وإن كان قد قال بهذا بعض العلماء لأن قولهم منقوض بما هو أقوى منه، ولا دليل يعضده، ولا سيما أنه قد عُرف عنهم تكلف إثبات الفروق ونفي الترادف، وأكثر العلماء على أن لا فرق، وإنما أُتي المفرّقون من قِبَل أصل التسمية، وأصل التسمية شيء غير الاستعمال الفاشي بين الناس، ولهذا قال ابن جنيّ في (الخصائص -2-94): (وفيه أيضاً موضع يشهد على من أنكر أن يكون في اللغة لفظان بمعنىً واحد، حتى تكلّف لذلك أن يوجد فرقاً بين قعد وجلس، وبين ذراع وساعد...) وفي (فقه اللغة للثعالبي) قال في معرض المماثلة بين كل جنس في الدلالة التي يقتضيها اللفظ المخصوص به-:(جلس الإنسان، برك البعير، ربضت الشاة...) حيث استعمل الجلوس من قيام ووجه الدلالة على ذلك أنه ماثل بين جلوس الإنسان وبروك البعير وربوض الشاة وغيرهنّ من الأجناس، ومن المعلوم أن البروك والربوض إنما هو من قيام، فكذلك الجلوس، ولو كان يرى التفريق لقال: (قعد الإنسان) حتى يساوي بين دلالة هذا الفعل ودلالة أفعال الأجناس الأخرى، وقد ورد قريبٌ من هذا في بعض كتب الفروق في اللغة.
وإنْ كنتُ أنا لا أنكر التفريق إنكاراً تاماً، لكني أقول: من خصص (قعد) بالقيام فهو خيرٌ، ومن استعملهما بمعنىً واحدٍ فله ذلك، ولا يُنكر عليه ولا يُمنع، وقد أشرتُ إلى ذلك في ردّي السابق حين قلت: إن زعم التفريق بين (قعد) و(جلس) باطل (حينما يُطلق) أي حينما يُلزم به، لا أن يُستحسن أو يُختار.
وأما الحجة على ذلك فالآية المذكورة من قبل، والأحاديث المتواترة، فأما ردّ الأخ الاحتجاجَ بالآية فهو رد واهٍ متكلَّف ليس عليه حجة ولا سلطان بيّن، فلن أردّ عليه لأنه ناقضَ العقلَ السليمَ وسفِهَه، ثم أنبّهه إلى أن العلماء الذين قرروا ذلك هم بشَر يخطئون ويصيبون، وأنهم ألزموا أنفسهم خطة لا تستقيم لهم على كل حال حيث أنكروا الترادف ثم لم يشاءوا أن ينزلوا عن هذا القول، فادعوا وجود الفرق في كل شيء ونفوا الترادف بعامة!
ثم إنّ الأخ وعدنا مرجعاً ولم أره، ومهما يكن فرأس الأمر وملاكه هو أنه أنكر على ابن بخيت قولاً قال به جمع من العلماء، وهو نفي الفرق بين (قعد) و(جلس) فهل عليه تثريب أو ملامٌ إن اتبع أحدهم وراقه قوله؟!
ولماذا يتحجّر واسعاً، ويحكُم الحكم الفصل في مسائل مازال العلماء مختلفين فيها؟!!
ويعلمْ أني لا أنكر عليه أن يقول قولاً يراه حسناً، إنما أنكر عليه إلزام الناس به وتخطئتهم لأجله، وهذا محور كلامي كله!
6- من العسف والجبروت الرأيي - وليتنبَه القراء- أن الأخ قال:(أما ما أورده من أحاديث نبوية شريفة فلا يحق له أن يستشهد بها على اللغة، وإنما يستشهد بها على الأحكام الشرعية، بخلاف المتأخرين كابن عقيل وابن مالك وغيرهما...) فيا هذا إذا كان قد قال بهذا ابن مالك وابن عقيل وهما من هما فلماذا تقول: (ولايحقّ له أن يستشهد بها على اللغة) فأيّ تسلط هذا الذي تصنع؟!
ثم نقل الأخ بعد ذلك كلاماً للرافعي، ولكنه -عفا الله عنه- اختار من النصّ ما وافق هواه، أي أخذ منه على مقدار هواه ومقياسه، ولو أن هواه طال لطال النص المنقول مثله، ذلك أن الرافعي بعد قوله هذا قال:(ولبعضهم كلام ((حسن)) في ذلك..) (وهو لابن الدماميني) ثم ذكر قول من قال بصحة الاحتجاج بالحديث على النحو وسرد حججهم، وهذا كله مأخوذ من (خزانة الأدب) للبغدادي، فلو أحال الأخ عليه لكان خيراً، إذ كان الأولى به أن يرجع إلى المرجع الأمّ الذي جمع الخلاف فأوعى، وإن شاء أن يرجع إلى الأصول التي أخذ منها البغداديّ، لأن هذا أساس في البحث العلمي، هذا ماقبل ثم ما بعدُ فليعلمْ أنّ هناك فرقاً بين الاحتجاج بالحديث على مسائل اللغة والاحتجاج به على مسائل النحو والصرف -فكلامه كله لا اعتداد به لأنه في الاحتجاج بالحديث في مسائل النحو فحسب- ولهذا كتب بعض العلماء في (غريب الحديث) كأبي عبيدة معمر بن المثنى وأبي عبيد القاسم بن سلام والزمخشري وابن الأثير وغيرهم، ومن أجل هذا جعل ابن منظور كتاب (النهاية في غريب الحديث والأثر) أصلاً من أصول كتابه (اللسان) وتلقاه العلماء من بعده بالقبول، وقد ذكر العلامة الطناحيّ في حاشية (كتاب الشعر لأبي علي-72) أن الدكتورة خديجة الحديثي قد أفادت في كتابها (موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث) أن الاحتجاج بالحديث في ((اللغة)) والأدب والتفسير لايعدّ من مسائل الخلاف، ولايدخل المحتج بها ضمن المحتجين بها في النحو والصرف، وقد قال الطناحي أيضاً: (وهم ((غير مختلفين) في أنّ الحديث قد استشهد به الصدر الأول في توثيق اللغة وتحريرها)) وهذا واضحٌ بيّن، والخلاف إنما هو في مسائل النحو، وأما ذكر الرافعي للغة مع النحو فإنما يريد باللغة ها هنا النحوّ، ويدلّ على ذلك ذكره لأئمة البصريين ومنهم سيبويه، وسيبويه إنما هو نحوي لا لغويّ، ويدلّ على ذلك أيضاً أن زيادة (اللغة مع النحو) لم ترد في الأصل (الخزانة) وارجع إلى ما قدمنا آنفاً من الحجة والنقل، أو يكون هذا وهماً من الرافعي!
الثاني: أنْ لو كان الحديث الذي احتججتُ به واحداً أو أكثر بيسير، أو كان ضعيفاً أو نحو ذلك فلربما كان للأخ مضطرب واسع من القول، ولكن الأحاديث التي احتججت بها لقولي كثيرة جداً، بل متواترة، وهي في الصحيحين أحدهما أو كليهما أوفي غيرهما، ولا يصحّ في العقل السليم أن يتواطأ هؤلاء الرواة كلهم على تبديل لفظة (قعد) إلى (جلس) والعكس، و(شبّان) إلى (شباب)، فهذا هراء وتخرص واتباع للظن المتوهّم على اليقين الثابت، فعلى ذلك يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال:((... فليركع ركعتين قبل أن يقعد...)) وقال:((يامعشر الشبّان)) فأجمع الرواة الحفظة المتقنون على تغيير (يقعد) إلى (يجلس) و(يامعشر الشبان) (يامعشر الشباب) وكذا قال:((الحسن والحسين سيدا شبّان أهل الجنة) فغيروها إلى (شباب)!! ولم كل هذا العداء لـ(شبّان)؟ لاندري!!
وبعد:
فننتهي من ذلك كله إلى نفي الفرق بين (قعد وجلس) وإثبات (شباب) جمعاً، لأني بينتُ آنفاً إجماع العلماء على الاحتجاج بالحديث على مسائل اللغة، فزال الإشكال، وبانت الحجة أبينَ من فلق الصبح، وظهر الحق، ولله الحمد!
ثم ذكر الأخ أن خصمي هم سيبويه ومن نحى نحوه من أئمة البصريين في النحو، وقد ردّ على نفسه بنفسه حين قال (في النحو) والحقّ أن هؤلاء كلهم خصمه وأنهم شاهدون على جهله في التفريق بين (النحو) و(اللغة) ثم إن سيبويه أصلاً لم يتكلم في هذا الأمر، ثم لو فرضنا أن سيبويه أنكر الاحتجاج بالحديث في مسائل اللغة - ولم يكن- فإنه بذلك لايكون خصماً لي، وهذا كلام من لم يخبر العلماء ولم يقض ساعات عمره بين الكتب، فإن العلماء لايزالون مختلفين، وهم مع هذا ليس بعضهم خصماً لبعض، وهل ترى ياهذا أن كلّ من خالف امرأ في الرأي صار خصماً له، إذاً على هذا يكون الصحابة بعضهم خصماً لبعض، وكذا الأئمة الأربعة وغيرهم، وهذا لايقول به عاقل!!
ثم قال الأخ: إنه يتوق إلى رؤية الردّ عليهم، ولا أدري ما فعلوا حتى أردّ عليهم، بل الرد كله عليك أنت، وأما هؤلاء العلماء الكبار فهم أجلّ من أن أردّ عليهم!
7- أمامسألة الالتفات فأعرض عنها لعدم جدواها، ولكني أنبهه إلى فرقٍ ما بين الاستحسان والإنكار، وأما المسوّغات فإنها غير محصورة، وليرجع إلى كلام ابن الأثير في المثل السائر.
8- يزعم الأخ أن الذي أمامك لابد أن يكون ظهره قِبَل وجهك، ومتكؤه في ذلك هو كتاب (معجم الأخطاء الشائعة) لمحمد العدناني، والردّ عليه من وجوه:
الأول: أن مؤلف الكتاب محدَث فلا يحتجَ به، ثم إنه لم يُسبق بهذا القول فيما أعلم.
الثاني: أني رجعت إليه فلم أجد حججاً صحيحة ولا مستقيمة.
الثالث: يُردّ عليه بالحجج العقليّة والنقليّة، فالعقليّة أن يقال: إن العرب قد جعلوا كل ماهو خلف ظهرك وراءً بإطلاق، فكذلك كلّ ما هو حيالك فهو أمامك بإطلاق، وهم أيضاً قد عرفوا الأمام بأنه ضدّ الوراء فيقاس دلالة الضدّ على دلالة ضده، والدليل العقليّ الثاني أن الأمام يطلق على الحيوان والجماد والإنسان، والمتقرّي لأشعار العرب يجدهم كثيراً مايقولون لكل ماهو قِبَل وجوههم من الحيوان والجماد: هو أمامنا، والشواهد عليه كثيرة جداً، فيقاس على هذه الدلالة في الحيوان والجماد الدلالةُ في الإنسان، فكما يقال للقمر: أمامنا القمر، ولم يخصصوا به ما إن كان على هيئة معينة أو خلافها فكذلك الإنسان، حيث لنا أن نقول: إذاً ما الذي خصّص الإنسان إذا كان ظهره قبَل وجوهنا أن نقول له: هو أمامنا، وإذا كان وجهه هو الذي يقابلنا أن لانقول له ذلك؟!
أما الحجج النقليّة فقول عامر العدواني- وهو جاهليّ-:
وأحسبُ أنفي إذا ما مشيت
تُ شخصاً أمامي رآني فقاما |
ودلالة هذا البيت دقيقة الاستنباط، حيث شبه أنفه الطويل بشخص جالس لما رآه قام، ووجه الدلالة أنّ الشخص الجالس لايمكن أن يراك وقد ولاكَ ظهره، فلابد أن الشاعر يريد أن هذا الجالس قد ولاه وجهه فلما رآه قام، وهذا بيّن، وهو الظاهر من البيت!
وكمثل هذا قول الحكم بن عبدل الأسدي -وهو أموي-:
أمامي من الحرمان جيشٌ عرمرمٌ
ومنه ورائي جحفلٌ حين أركب
حيث شبّه الحرمان بجيش عرمرم واقفٍ أمامه، ووجه الدلالة أنه قال إن هذا الجيش أمامه، ومن المعلوم أن الجيش المتربّص بأحد إنما تكون وجوه جنوده قِبَله، فالشاعر جعلهم أمامه، ولا يُعقل أن تكون ظهورهم هي المقابلة لوجهه!
وكذلك قراءة عبدالله بن عباس وابن جبير:(وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) والظاهر المتوقَّع أن يكون وجه الملك تلقاء وجوههم ينتظر من يقدم!
ويقول أيضاً رؤبة الشاعر:(الذي يأتيك من أمامك النطيح) ويقول أبو الفرج الأًصفهاني: (الجابه: ما جاء من أمامك مواجهاً لك) ومثل هذا في اللسان وغيره.
وأما دعوى اشتقاق (أمام) من (إمام) فدعوى باطلة لا دليل عليها، وينقضها ما قدمنا، ثم إن (أمام) ظرف مكان جامد لم يشتقّ من غيره، ولو فرضنا اشتقاقه من (إمام) المسجد -مثلاً- فلا يلزم منه الحصر بكون ظهره قِبَل وجه المتكلم، مع أن الاشتقاق لايصلح فهما كلمتان لكلّ واحدة منهما معنى مستقلّ!
9- أما كلمة (شباب) فإني أقول إنها مصدر وجمع أو اسم جمع، فهي جمع باصطلاح اللغويين، واسم جمع باصطلاح النحويين، ولكن الأخ أنكر أن تكون جمعاً ولم يأت بدليل يعضد به قوله أو يردّ به قولي: إلا أن احتج بكتاب (تطهير اللغة من الأخطاء الشائعة) وقد أكثر الأخ ذكره، وهو لايُحتَج به، ولا يُسكَت به الخصمُ، وقد تكلّف الأخ دفع الحجج التي احتججتُ بها تكلفاً بيّناً، حيث ردّ الأبيات التي احتججت بها بأنها ضرورة شعرية، وهذا قولٌ مُنكر غريب جداً، لا أدري كيف استساغ الأخ أن ينطق به، والردّ عليه من وجوه:
الأول: أنّ هذه دعوى من الأخ، وعلى المدعي البينة، فليأتنا بقول من قال من العلماء بأن كل كلمة في الشعر يُحتمل أن تكون ضرورة،وقد ذكر أبو سعيد السيرافي أنه ليس من ضرورة الشعر رفع مخفوض ولا خفض مرفوع، فكيف باللغة التي عليها مدار الكلام كله؟!
الثاني: أنه ينبني على هذا أن يدخل الشك في لغتنا العربية جميعاً، فلكلّ أحد أن ينكر شيئاً من العربية بحجة الضرورة، ثم على هذا تسقط لغتنا ويتلاعب كل أحد بألفاظها وهذا لا يكون !!
الثالث: أن الأخ ردّ الحديث النبوي والشعر الذي يحتج به واستعمالات العلماء والشعراء والمعاجم التي ذكرَت ذلك كلها، وهو مع ذلك لم يقدم دليلاً واحداً، سوى أن مؤلفاً معاصراً قاله، فتبعه الأخ دون أن يسأل أو يعترض أو يقول: لماذا؟! والعجب كل العجب أن الأخ أنكر أن تكون لفظة (شباب) جمعاً ومع ذلك لم يذكر السبب أبداً، وذلك لأن صاحب الكتاب الذي اعتمد قوله لم يذكر السبب فتبعه الأخ دون أن يدري لماذا، ومن غير أن يعرف علة رفضه لها.
الرابع: أن هناك ما ينقض هذه الدعوى، وهو المعاجم الكثيرة جداً التي ذكرت ذلك منها معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة ومعجم الأخطاء الشائعة فلمَ يرضى الأخ قولَه في موضع دون موضع، وتلك الأحاديث التي أثبتّ الاحتجاج بها في اللغة، والأشعار التي قيلت في عصر الاحتجاج، والاستعمالات الكثيرة جداً من قِبَل العلماء الكبار، ولو أمكنني لسقتها إليك كلها، فكيف نقدم مؤلفاً معاصراً وحده على طائفة كبيرة من العلماء الأوائل الذين لا يُدرك شأوهم؟! وكلنا يعرف بيت الحماسة الشهير للسموأل أو لعبد الملك الحارثي:
وما قلّ من كانت بقاياه مثلنا
شبابٌ تسامى للعلا وكهولُ |
الخامس: وهو إمعان في الحجة وليس ركناً، وهو أن الأمة جمعاء لا تكاد تعرف إلا (شباباً)، وأنت تعلم مبلغ تغلغل (شباب) جمعاً فيها، وانظر إلى الكتب والمعاجم والأشعار والمقالات الصحفية والمرافق الحكومية والأشرطة الصوتية وغيرها ترَ أن الأمة يُستبعد أن تجمع كلها على هذا الخطأ!
السادس وهو الفصل: أنه لايمكن أبداً أن يستعمل عربي قديم مصدراً في موضع جمع، فالأخ يزعم أن العرب القدامى لا يعرفون (شباباً) إلا مصدراً، ومع ذلك استعملها كثير منهم جمعاً، ورد هذه الشبهة أن العربي القديم لا يتصور في ذهنه إلا أن (شبابا)مصدر فلا يستطيع أن يؤتيَها دلالة أخرى ولو ضرورة، كما أنه لا يمكن أن يأتي شاعر معاصر فيقول: ذهبتُ مع إسلام، يريد مع مسلمين، ولا ذهبتُ مع بصَرٍ بمعنى مبصرين ،فهذا محال عقلاً ! ثم قال الأخ: أشكر أخي (فيصلَ) وهو خطأ وصوابه (فيصلاً)، لأن هذه الكلمة مصروفة وليس ثمّ مايمنعها!
ثم استرسل الأخ في الكلام على قراءة الأعداد، ثم راغ بطريقة عجيبة وأقحم (محمود شاكر) دون داعٍ إلا حبّ التباهي والمفاخرة بمعرفته، وقال: ما علمي بإزائهم إلا كقلامة ظفر، وأقول: ومن ذا الذي سألك عن مقدار علمك أم يكاد المريب يقول: خذوني؟!
ثم ليعلم -بالمناسبة- أن محمود شاكر هذا الذي يعده عملاقا قد استعمل (شباباً) جمعاً في بعض كلامه، فليتفكر في هذا القول الشاذ الذي قال به هو اتباعاً لمؤلف غير مشهور!
ثم ذكر الأخ أن (ابن بخيت) قد أبدى الإذن في عرض مقاله على القراء، ومتى كان النقد يحتاج إلى إذن، أم هو أمر قُضي بليل؟!
ثم ليعلم الأخ في الختام أنه ليس له ولا لغيره أن ينكر على أحد أن يأخذ بقول خلافيّ، وقد وعدته قولاً، وها هو ذا، فقد نقل الطناحي في مقالاته (197-201) عن ابن هشام اللخمي أنه قال: (وإذا كان في الكلمة لغتان وكانت إحداهما أفصح من الأخرى فكيف تلحّن بها العامة وقد نطقت بها العرب، وإنما تلحن العامة لما لم يُتكلم به)، وراقني قول ابن الأعرابي في اللسان، مادة أفت، إذ قال معلقاً على بيت:(فلا أدري أهي لغة أو خطأ) فانظر كيف خلق العلماء، وإقرارهم بمبلغ علمهم، وتوقفهم واحترازهم، وانظر أيضاً كيف يصنع الناشئة، وكيف يجترئون علىالتخطئة والإنكار في غير موضع الإنكار!
وإذا كان الأخ يزعم أنه إنما يريد الأفصح فإن (بالاً) بغير معنى الحال والشأن فصيحة ولا تقلّ عن غيرها، وكذلك (شباب) فهي فصيحة، ولو زعمنا أنه يؤثر ما قرّر على هاتين الكلمتين فليس له أن ينكر على أحد أمراً غير خطأ ولا مخالف للفصيح، ولو أخذنا بذلك لخطأناه هو لأنه استعمل ألفاظاً في غير محلها، وأخرى على غير الأفصح مثل تعديته (وقف) بالهمزة، وتعديته (شكر) إلى الذات بغير حرف جر، ومثل قوله (أعطاك ظهره) والظهر لا يعطى حقيقة ولا مجازاً، ومثل قوله: (في أتون صفحة عزيزتي الجزيرة) والأتون في اللغة: الموقد، وإنما يستعار في مثل الحرب، وقوله: (قسرة) والصواب (قسر)، وكذلك خطؤه النحوي الذي ذكرناه غيرَ بعيد، فلو أنا حاكمناه بميزانه لقلنا: أسلوبك ليس كما تظنّ، لأنه استعملَ غير الأفصح في عدة كلمات، ولذهبنا أيضاً إلى كبار الأدباء والكتاب كالجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وأبي علي القالي وابن الشجري وأبي هلال العسكري وابن قتيبة الدينوري وأبي حيان التوحيدي وابن عبد ربه الأندلسي والزمخشري وأبي العلاء المعري والهمذاني وعبدالقادر البغدادي وابن الأثير وأبي عبيد القاسم بن سلام والمرزوقي ومن المعاصرين الرافعي ومحمود شاكر والطنطاوي والطناحي، وغيرهم كثير جداً، هذا سوى المعاجم والأشعار فهي بالغة الكثرة، ولقلنا لهم: أسلوبكم أيها العلماء ليس كما تظنون، لأنكم استعملتم كلمات مثل (البال والشباب والجلوس) على وجه يرى صاحبنا هذا أنه خطأ، مع أنه أصلاً غير خطأ ولا مجانف للفصيح، ثم إن كان يرى الأخ ضلال كل هؤلاء عن الصواب فهلا اشتغل بلومهم وتخطئتهم في المحافل، من قِبَل أن الضرر منهم بليغ، وأن السبيل إنما هي عليهم؟!
فيصل بن علي المنصور
بريدة |