قال لي: ما فائدة هذركم الثقافي والسياسي وحواراتكم السخيفة؟ هل ستساعدني -أنا الرجل الذي بلغت الستين من عمري- بالحصول على مسكن أمتلكه، أو تأمين مستقبل أبنائي؟ هل ستوصل صوتي؟ إني أكافح وأعمل طوال النهار وأطراف الليل بلا كلل مذ كنت طفلا، ولا أرى فيكم إلا مجموعة لاعبين تراوغون بالكلمات المزركشة.. لغتكم جميلة ولكن لا أفهمها، وإذا فهمتها لا تعنيني.. لم أحر جوابا، ماذا يمكن أن أقول؟ ولأنني فشلت في محاورة هذا الرجل الأمي العصامي المكافح، تراءت لي بعض أطياف المعوقات العامة في إشاعة الحوار منطقاً وسلوكاً.
لا شك أن الحوار هو إحدى الوسائل لمواجهة موجات التطرف والعنف التي تجتاح منطقتنا العربية، من بين العديد من الوسائل الأمنية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. ويُقصد بالحوار: تبادل وجهات النظر المختلفة واحترام الاختلاف وإدارته بأسلوب عقلاني يفضي إلى اقتراح توصيات وحلول.
وتصب المبادرة السعودية بتأسيس جهة مختصة للحوار الوطني في هذا الاتجاه.
وقد ناقشت عبر بضعة مقالات بعض الإيجابيات والسلبيات في آليات تنفيذ هذا التوجه المدني.
ورغم أن الحوار الوطني الثالث كان ناجحاً، من وجهة نظري، ولا توجد لدي ملاحظات مهمة على آلية تنفيذه، إلا أنه لم يكن ذا تأثير يمكن تلمسه ولو بشكل غير مباشر، مما دعا ذلك الرجل الجليل، الذي أدرجت خلاصة قوله، إلى النفور مما يراه حوار مترفين؛ إذ يبدو انه لا يكفي أن نعلن الحوار ونقيمه دون تهيئة الأرضية الخصبة التي تنميه وتكفل له الظروف المناسبة لكي يؤتي أكله، وتخفف من المعوقات العامة للحوار في مجتمعاتنا العربية. لعل أهم معوق هو التحجر الثقافي والانغلاق الاجتماعي الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربية.
بدءا من البيت (العائلة الأبوية) والمدرسة، ومروراً بالإعلام الرسمي والديني وانتهاء بالسياسة والأدب.. نعاني من الصغر حتى المشيب من ثقافة الإجماع (القبلية)، التي لا تقبل الحوار إلا بهدف التأييد المتبادل مع إلغاء الاختلاف بإقصائه أو سحقه، والازدراء بالابتكار والإبداع، بل حتى في أدبيات المعارضة بشتى أشكالها والتي هي ضحية الإقصاء، تجد التأييد المطلق لرموزها وفكرها مقابل الإنكار المطلق للآخر، أو التشكيك في عقيدته أو وطنيته أو نزاهته.
هنا تتجمد الأفكار طالما أن النقد ممنوع؛ لأنه رصد للمثالب، والحوار مقيد؛ لأنه تنازل للخصوم، والتحليل الموضوعي مشروط؛ لأنه تصيد بالماء العكر.
كيف -إذن- يمكن مواجهة هذا المعوق؟ أظن ببساطة متناهية، بالاعتراف به.. ولكن الأغلبية يعترفون به، ولم يخف تأثير هذا المعوق، لماذا؟ أظن، أيضا، لأننا نعترف به مطالبين الآخر بتعديل مساره، لا نحن.
إذا لم نعترف به باعتباره اشكالية تنبع من ذواتنا، من داخلنا، قبل الآخر، سواء كان هذا الآخر: أخا، صديقا، زميلا، مسئولا، زعيما، مؤسسة، تيارا أو مذهبا فكريا، بلدا، ثقافة.. إلخ، فلن يكون للحوار معنى.
أغلبنا -أفرادا وجماعات- نؤيد الحوار ونطالب بفتح كل الملفات ما عدا تلك التي تؤثر على مصالحنا أو قناعاتنا أو عاداتنا أو أنماطنا السلوكية.
وفي تقديري هذا يوضح أن مفهوم الحوار لم يطرح بشفافية ووضوح؛ لأن المكاشفة الحقيقية لم تبدأ بعد.. كلٌّ يرى أن الحوار هو مجرد اقناع الآخر لصالحه، وهذا تأسيس خاطئ للحوار.. الحوار، كما الإصلاح، عمل شامل يعني تغيير الجميع.. وهذه لن تدرك دون كشف حاجات وقناعات الجميع، دون تحفظ، مع الاستعداد التام المسبق لمراجعة الذات وتقديم التنازل كي يمضي الركب الحضاري للمجتمع قدما دون ضحايا أو بأقل ضحايا ممكنة.
هنا يأتي دور النخبة (الثقافية والسياسية) في تبيان أن الحوار ليس شعاراً فقط، وليس الهدف منه تطييب الخواطر وتمشية الحال.. بل طرح المعاني الجوهرية التي قد تبدو محرجة ومخالفة للمعتاد أو المألوف، سواء من أهداف الحوار، ومن توضيح الأساليب وآليات التنفيذ، ومن استخلاص النتائج، واقتراح التوصيات.
وأؤكِّد على مخالفتها للمعتاد؛ لأن هذا المعتاد هو البيئة التي أودت بنا فيما نحن فيه من أزمات مرعبة.
هناك عائق آخر مهم في مسألة الحوار، وهو الوضع الاقتصادي المتدني.. كيف يتم الحوار وترفع كفاءته في المجتمعات العربية وأكثر من نصف السكان العرب تحت خط الفقر؟ كيف تناقش جائعاً، حوارك معه لا يسمنه ولا يغنيه من جوع؟ ربما يحاورك إذا أقنعته ببرنامج واضح شفاف يخفف من حالة الفقر، عدا ذلك فهو يرى أن من حقه أن يتجاهلك أو ربما يعاديك! لن ينصت لما يراه هذرا وترفا ثقافيا وتبجح نخب برجوازية. ولا ننسَ أن الفقر يرتع أكثر في بيئات الجهل والأمية وأحزمة البؤس في المدن العربية، وتلك الأحزمة قادمة من الريف والبادية، محملة بأفكار ماضوية تستنكف المدنية والتحديث، خاصة إذا لم يكن فيها ما يغنيها عن ذل الحاجة وبُعد المكان وغربة الثقافة.
من الناحية الوصفية المباشرة، يمكن القول أن الفقير نفسه ليس عضواً في حوار، ولكنه مع مجموعات مكتظة من الفقراء يشكلون دعماً معنوياً وبشرياً وحركياً هائلاً لتيارات ناقمة.
هذه التيارات من حقها التعبير عن نفسها، لكن إذا لم تتمكن من ذلك، فإنها قد تلجأ إلى الانعزال، سواء المتطرف سياسياً أو المتخلف اجتماعيا.. وقد يجد الفقير في تيارات منغلقة (مذهبياً أو عشائريا) ينبوعاً يغذي نفوره من النظام، وينميه إلى حالة من التطرف الرافض للحوار، وما قد يتبعها من انضواء في مظلات حركات العنف.
ليس الغرض من هذه المقالة سرد جميع معوقات الحوار، بقدر عرض أهمها بلمحة مقتضبة موجزة لمواجهتها.. كذلك طرح المعوقات ليس هدفه وضع العصي على العجلات، بل التنبيه أن الحوار سيكون عقيما إذا اصبح غرضه تطييب الخواطر والتنفيس المؤقت.
|