عزيزي القارئ.. كثيرة جداً الأهداف الجميلة التي نشاهدها - على الدوام - في مباريات كرة القدم الرسمية منها والودية.. ولكن الأهداف الغربية في طرق التسجيل قليلة جداً، وتكاد تكون نادرة، و(الغريب) نقصد به هنا كل ما هو خارج عن المألوف، والعادة التي استقرت عليها أعين الناس، في مشاهداتهم اليومية.. وممارساتهم المتكررة.
ونحن من هنا - عزيزي القارئ - من على صفحات ناديك الرياضي الحبيب يشرفنا أن نوالي - أسبوعياً - نشر قصص هذه الأهداف الغريبة، مع مراعاة اضطرارنا للدخول إلى الظروف المحيطة حتى تتفاعل مع الأحداث وبالتالي يطربك الهدف.
معنا هذا اليوم لاعب اسمه (بادي) يبلغ من العمر عشرين عاماً.. لاعب فنان وموهوب.. كاد يكون حظه تعيساً إلى النهاية.. ومشكلته مع التعاسة كونه احتياطياً لاعظم جناح أيمن في البلد كلها.. جناح أيمن الفريق القومي ويعد بجدارة أحسن من يلعب في هذا المركز في دول أفريقيا الشرقية لم يستطع أحد على مستوى البلد كلها منازعته مركزه على كثرة الأندية وكثرة اللاعبين وتعدد مواهبهم واختلاف مزاياهم.. ثم اصرار الادارة والمدرب من جهة أخرى على رأيهم في (بادي) وكونه غير صالح لغير مركز الجناح الأيمن.. والجناح الأيمن في قمة تألقه.. وفي ذروة مجده، مستواه يتجدد، وتزداد خطورته، فالتقديرات لا يمكن أن تحدد المدة الزمنية التي سيمكث خلالها في الملاعب، ولذلك سمي (بادي) في ذلك الحين باللاعب التعيس، وهو في الواقع تعيس.. وتعيس كل لاعب يعيش في ظروف مشابهة لظروفه.. كان من الممكن أن يكون ذا شأن في الملاعب فيما لو كان في فريق آخر غير هذا الفريق الذي يمثل جناحه الأيمن أحسن جناح أيمن في شرقي أفريقيا.. والذي تمثل ادارته ومدربه الجهل الى أسفل مراتبه.
ظل (بادي) زمناً طويلاً احتياطياً لهذا الجناح الخطير لا يحلم بالمشاركة إلا في بعض المباريات الودية التي يجريها الفريق، ومع ذلك حافظ على اخلاصه لفريقه.. وواظب على حضور تمارينه.. لم ينل من اليأس مكمناً.. ولم يصب منه القنوط موطناً.
من العادات السيئة في أندية افريقيا الشرقية ايماناً بالسحر واعتمادها عليه.. قبل موعد كل مباراة يتواجد اللاعبون عند شيخهم (الساحر) واجتمعوا هذه المرة من حوله كعادتهم في كل مرة، وهو بينهم ويداه على حافة (قدر) مملوء بالماء يشاهد فيه المباراة القادمة، ويشرح لهم تفاصيل سيرها، وساحر هذا الفريق عضو عامل فيه، ورجل يفهم في الكرة أكثر مما يفهم غيره ممن في أيديهم الحل والربط، وله آراء صائبة حول أوضاع الفريق عن فهم كروي سليم، وكثيراً ما شرح للمدرب ومدير الكرة رأيه في (بادي) محاولاً تخليصه من عقدة الاصرار التي أصيبت بها الادارة والمدرب، والتي ترتبت عليها الاحساس بالتعاسة الملازم باستمرار ل(بادي) الذي يرقب فرصة في يأس على أمل سراب في فشل (ميدي) الجناح الخطير، وهو أمر مستبعد إلا اذا فقد عضوا من اعضائه، أو حياته كلها.. وهذا كله أمره عند الله - عالم الغيب والشهادة، كان الساحر باستمرار يعتقد أن (بادي) في فورمة ممتازة وأصلح للفريق بكثير من كثيرين ممن يحتلون مراكز أخرى في الهجوم وهو بموهبته ومزاياه غير صالح لمركز الجناح، ولما كانت كل محاولاته تذوب عند اصرار الادارة والمدرب، اصر من جانبه على فرض وجهة نظره بصورة قسرية، فاستعمل ألاعيبه السحرية، وحولها على (ميدي) وجعله يرقد حتى انتهاء المباراة، واتاح بذلك الفرصة ل (بادي) فلعب جناحاً أيمن وفشل فيه بالفعل ونقل إلى (رأس حربة) ونجح فيه.
بعد مدة من الالتفاف حول (الساحر) و(القدر) وصلت إلى مسامع الحضور كلمات متقطعة من فم (الساحر) وهو يتثاءب ( الفوز اليوم من نصيبكم.. هدفكم الوحيد سيسجله (بادي) وتحرك (بادي) من مكانه وهو يكاد لا يصدق ما يسمع (أنا).. قالها وهو يطل برأسه إلى (الساحر) من بين الجميع.. فأجابه.. (نعم أنت، وما الغرابة في ذلك؟).
لم يتفوه (بادي) بكلمة حتى لا يفسد على نفسه هذا التصور الجميل.. وراح يحدق في (ميدي) الذي كان واقفاً على الجانب الآخر يضحك بثقة واطمئنان.
ان (الساحر) خرف.. انه يهذي.. انه.. وأنه.. وخرج الجميع وهم يتهمون ساحرهم بالهذيان حتى (بادي) نفسه اعتقد أن في الأمر مقلبا ضده.. ولم يدر ان الساحر قد دبر فعلاً مكيدة لصالحه.
مضت الساعات المتبقية من موعد حضور الفريق إلى أرض الملعب.. وخرج الفريق في (الأتوبيس) بكامل لاعبيه سوى (ميدي) الذي اعتاد على الخروج إلى الملعب في سيارته الخاصة وهو اللاعب الوحيد الذي يملك سيارة بين اللاعبين اذ ان مركزه الوظيفي ممتاز، ولا يحضر معهم إلا إلى موعد الاجتماع بالساحر، وصل اللاعبون إلى الملعب ودخلوا غرفة الملابس في انتظار (ميدي) وموعد المباراة التي لم يبق عليها سوى عشر دقائق، مضت الدقائق العشر ولم يحضر (ميدي) كعادته، وحان موعد النزول إلى الملعب ولم يحضر.. الحكم من الداخل يطلق صافرته، مدير الكرة والمدرب في حيرة.. أفراد الفريق الآخر (يسخنون) على أرض الملعب.. والفريق ما زال في انتظار لاعبه (ميدي) انه لن يحضر وهذا يعني أن الكأس سيطير به الفريق الآخر.
استعد الفريق للنزول.. وتقدم مدير الكرة من (بادي) وقال له (استعد لاخذ مكانك.. وشد حيلك).
توكل (بادي) على بركة الله ونزل خلف طاقم الفريق وهو يكاد لا يصدق ان كانت انفرجت أم لا.. وراح يفرك عينيه للتأكد ان كان في حلم أم هو حقيقة يدخل الملعب كلاعب هذه المرة.. إنه لا يصدق.. وبدأت المباراة وشارك فاشلاً في شوطها الأول كجناح أيمن وهو لا يصدق.
في الشوط الثاني أجري تعديل على مراكز اللاعبين أدخل بموجبه (بادي) إلى مقدمة الهجوم (رأس حربة) مهمته بالتحديد الركض في اتجاه المرمى عند كل كرة تتجه إليه ومشاغلة قلب الدفاع بالتحرك بالعرض من حين لآخر.. ولما كان دفاع الفريق الآخر يعتبر أقوى خط دفاع بين الفرق الموجودة.. فقد اعتبر (بادي) ناجحاً بالنظر إلى قلة تجاربه وحداثتها.. وأرغم دفاع الخصم على الاهتمام بتحركاته, ورغم المجهود الذي بذله والخطورة التي شكلها.. فقد سجل هدف الفوز الوحيد وليس بفنه.. ولا بموهبته.. كان الهدف عارضاً غريباً كما قصة اشتراكه تماماً.. اهتزت له مدرجات الملعب ووقف حياله لاعبو الفريق الخصم مبهورين.. ومندهشين.
كانت الكرة عالية في اتجاهها من الوسط إلى المرمى اتجه خلفها (بادي) يجري بما لديه من سرعة وعندما وصل منطقة الجزاء تشابكت قدماه في بعضها ووقع على الأرض، في الوقت نفسه كانت الكرة قد ضربت في العارضة وفي طريقها إلى الأرض.. فكان أن التقت الكرة على الأرض بمقدمة رأسه وراحت هدفاً في الزاوية الخالية من الحارس الذي اتجه حين قدوم الكرة إلى الناحية الأخرى.. أجمل هدف.. وأغرب هدف في آن واحد.
لقد أحس (بادي) بالخبطة في مقدمة رأسه.. ولم يتصور مطلقاً أن تكون الكرة.. أعتقد أنه (بوت) مدافع تعمد به خبطه على دماغه كما هي العادة بين اللاعبين في بعض المباريات الحساسة.
كان الصراخ والتصفيق يصم آذانه.. وشعر أنه يؤخذ من ذراعيه.. ولم يكن يعلم أنها كانت الكرة والهدف الموعود إلا حينما وجد نفسه فوق أكتاف زملائه يتلقى على ظهره وكتفه ضربات الاعجاب والعرفان له ببطولة اختراق دفاع لا يمكن ان يخترقه إلا (ميدي) ومن هو في مستواه.
|