لم أستوعب بعد ما تعنيه كلمة عانس.. في أي سن تستحق المرأة هذا اللقب.. بعد العشرين، بعد الثلاثين، بعد الأربعين، بعد الخمسين، بعد الستين، ثم ماذا نفعل بالمرأة التي تتزوج بعد أن تُوصم يوماً من الأيام بأنها عانس؟ هناك تبسيط يقول إن العانس هي المرأة التي فاتها قطار الزواج، ولكن أبسط منطق يقول: طالما أن المرأة ما زالت على قيد الحياة فاحتمال زواجها وارد، فالقطار إذا لم يفت ربما تأخر، وإذا كان قد تأخر فتأخر عن أي سن؟ في كلا الحالتين نعود مرة أخرى إلى نفس السؤال: متى تستحق المرأة لقب عانس؟ الغريب في أدبيات الزواج أن هذا اللقب خاص بالمرأة.. لم أسمع أن رجلاً وُصف بهذا اللقب.. ألا توجد سن معينة.. يوصم بعدها الرجل بأنه عانس؟ إذا كانت العنوسة تأتي من التأخر في الزواج، أو فواته فمن حق الرجل أن ينال هذا اللقب أيضاً.. إذا وُجدت ظاهرة عنوسة بين النساء فلا بد من وجودها بين الرجال.. الله خلق البشر ذكوراً وإناثاً بشكل متساوٍ تقريباً.. إذا جاء ذكر إلى هذا الوجود جاءت الأنثى لتتوازن الطبيعة وتنتج الحياة.
في كل مرة نتحدث باستخدام هذه اللقب، نلاحظ أننا نتحدث عن مشكلة كبيرة وشر مستطير.. نستخلص من كثير من الحوارات أن العنوسة كارثة تحل بالمرأة، فمنذ أن تبلغ المرأة سن الحلم وتصبح على استعداد جسدي للزواج يبدأ قلق العنوسة يستبد بها وبأهلها.. يتركون كل شيء ويبدؤون في التفكير الجدي بزواجها قبل أن تصبح عانساً.. يبدأ الأهل من الصفر من اللحظة التي تبلغ فيها ابنتهم الحلم، لأنهم كغيرهم لا يعرفون أي سن هي كارثة (العنوسة).
بعد تأمُّل لاحظت أن هناك تقنية إعلامية اسميها تقنية (تبديه الافتراضات) (تبديه) مشتقة من بديهي.. أي تحويل فرضية معينة إلى بديهية، وكأنها تحصيل حاصل.. يبدأ الأمر بتخمين، أو بفرضية مخادعة، ثم يتحوَّل هذا التخمين إلى حقيقة، وتتحوَّل هذه الحقيقة إلى بديهية لا تحتاج إلى اختبار.. هناك طرق كثيرة لإثارة موضوع من المواضيع بطرق مخادعة.. من بينها عملية التبديه هذه.. على سبيل المثال أستطيع في مقالة من المقالات أن أُسيء إلى جهاز من الأجهزة الحكومية بأن أبدأ بفرضية مخادعة.. كأن أقول: (لكي نزيل تذمر المواطنين من المرور علينا أولاً أن نبحث في تاريخ إدارة المرور وطرق تعامله مع الناس، ولا نكتفي بإلقاء اللوم على المديرين المخلصين الذين يعملون ليل نهار.. إلخ.. إلخ ).
لاحظ هنا أنني أطلقت فرضية أن المواطنين يتذمرون من المرور.. ثم بدأت أخوض في التفاصيل، وكأن تذمر المواطنين شيء بديهي يتفق القراء معي فيه.. كأنه أمر لا يحتاج إلى إثبات، ولكي أعزز هذه الفرضية المخادعة دعمتها برأي مخادع آخر يتسم بالخبث أيضاً، وهو قولي (المديرون المخلصون)، فهذه لا تركب مع هذه، ولكن هذه تمنحني نوعاً من المصداقية، وكأني كاتب محايد بريء يهدف إلى الإصلاح فقط، وأنا في واقع الأمر نسفت إدارة المرور من أساسها، ودفعت القارىء أن يناقش معي التفاصيل على أرضية مخادعة لم أثبت حقيقتها.
في كثير من الحوارات التي أتابعها عن العنوسة يأتيني الشعور أن ظاهرة العنوسة بديهية أو فرضية مخادعة، لأني أُلاحظ أن الحوارات حول العنوسة تنتهي بمديح تعدد الزوجات.. فالحوارات في موضوع العنوسة تبدأ بالتذكير بالكارثة، وتطويرها بشكل درامي، حتى نصل إلى ذروة المأساة، ثم فجأة تأتي لحظة التنوير بذكر تعدد الزوجات وفوائده، حتى يربط المستمع في لا شعوره بين العنوسة وتعدد الزوجات كارتباط الخير بالشر والأسود بالأبيض.
فاكس 4702164
|