Saturday 17th July,200411615العددالسبت 29 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

المنشود المنشود
الأعشاش الخالية!!
رقية الهويريني

تعالت الهمسات حين دخلت (هدى) إلى الاستراحة في اجتماع دوري للأسرة الكبيرة، اتفق فيه أفرادها على حتمية اللقاء للتواصل وصلة الرحم.. وحين استقر بها المكان بجانب إحدى قريباتها توالت عليها الأسئلة التي لا تخلو من فضول، وكان السؤال المحرج لها عن سبب استئنافها العودة للاستراحة!! لم تجد (هدى) مبرراً لهذا السؤال، ولكنه بالتأكيد هو المبرر الحقيقي لانقطاعها عن الاجتماع الدوري، الذي تتصدر فيه الفتيات المجلس بالحكايات والفكاهات الخالية من الحياء، وتهمش فيه أحاديث الحكمة والتجارب ورواية العِبَر والطرائف الهادفة والممتعة في آنٍ واحد!!
و(هدى) شخصية اجتماعية من الدرجة الأولى، تجد المتعة مع قريباتها؛ حيث يشعِرْنَها بالانتماء والدفء العائلي، فهي تنظر للكبيرات في السن أنهن يملكن تجارب تحتاج لها، وقد تجد لديهن إجابة لتساؤلاتها العديدة في مسيرة حياتها، وترنو لقريناتها في العمر بأن في استطاعتهن احتواء أفكارها ومناقشة المشاكل والهموم المشتركة لمَن هن في مثل عمرها أو ظروفها العملية. أما الأطفال فهم أصدقاء أبنائها، وممَّن تشعر بأنهم من نفس النسيج الأسري والاجتماعي والتربوي، بَيْدَ أن هدى تصاب بخيبة أمل حالما تعود من الاستراحة مباشرة، فلا تنام ليلتها تلك تفكِّر في تلك الساعات التي قضتها ومدى الاستفادة منها، فلا يكاد يُسمع في ذلك المجلس ذكر لله إلا قليلاً، ولا تبادل للأحاديث الودية التي تشعرها بالتدفق العاطفي إلا نادراً، أما المشاركة في السراء والضراء فلا تبدر من أحد! بل تغلب على المجلس السخرية والانتقادات الشخصية، وتدور فيه أطباق الحلوى التي تتبارى فيها المدعوات بمهارات (خادماتهن)، ويتلو ذلك كله العشاء المتعدد الأصناف! وتمتد السهرة بهم طويلاً، وتعود القوافل إلى المنازل معظمها في حالة نشوة بانتظار الاجتماع القادم. ومع قناعة هدى بأهمية التواصل العائلي وبين الأصدقاء تتساءل بحيرة: هل هذا هو المعنى الحضاري لصلة الرحم وتفقُّد الأحوال؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه استعراضاً زائفاً بمساحة الاستراحة وارتفاع سعرها وتعدُّد مرافقها!!
حقيقة.. لِمَ لا نشعر بالثراء الفكري والمعرفي في زياراتنا لبعضنا البعض حتى ولو كان الأصل فيها صلة الرحم؟ لدرجة بات معها أحدنا يعود بعد كل زيارة وهو لا يحمل من وزر قضاء الساعات الطويلة إلا أخبار مستهلَكة أو طُرَف سخيفة، وتحولت الزيارات العامة والخاصة إلى مجاملات وتبديد وقت الفراغ الممتد لوقت متأخر من الليل. ثم إن اختيار الوقت أمره عجيب فعلاً؛ فالزيارات لا تبدأ إلا بعد صلاة العشاء؛ صيفاً أو شتاءً، وقد تتعداها بساعات، وتقترب نهايتها من صلاة الفجر، فهل هذا ما أرشدنا إليه ديننا الإسلامي للنوم الباكر لنتمكن من القيام لصلاة الفجر؟ هذا إذا سلَّمنا ببراءة الزيارات من اللغو واللهو! فما بالك بأشخاص تمتد بهم ساعات الليل في لعب أو غياب فكري باستماع أو مشاهدة ما تشمئز منه النفوس السوية.
إن مجتمعاتنا الإسلامية لا تخلو من وجود فئات مغيَّبة عن الحق وتحتاج للتنبيه فحسب؛ لأنهم اعتادوا أن يمارسوا عادات اجتماعية قد لا يكون ظاهرها مخالفاً للشرع، ولكن في باطنها يكمن البعد عن الله، فهي تحتاج للتذكير وإيجاد البدائل، فما يمنع أن تكون الزيارات بعد صلاة العصر مباشرةً وتنتهي قبل صلاة العشاء؟ حيث يعود المرء إلى منزله كما تعود الطيور إلى أعشاشها وتخلد للنوم باكراً، وهي التي ميَّزنا الله تعالى عنها بالعقل، وأنزل معه التكليف الذي سنحاسب عليه.
والطريق إلى تعديل الاتجاهات الخاطئة التي اعتاد عليها الناس لا يخلو من صعوبة، ولكن حين يكون الدافع هو الصدق والمحبة والإصرار على التعديل والتطبيق بصورة مقبولة، عندها ننجح في تصحيح المفاهيم والعادات. وقدوتنا في ذلك سيد البشر -صلى الله عليه وسلم- الذي عدَّل عقيدة أمة من الشرك إلى التوحيد، أفنعجز عن تصحيح أسلوب خاطئ في حياة مجتمع دائم التغيير؟!
وما زالت هدى تتردد كل مرة بقبول أي دعوة تُقدَّم لها؛ حيث تتذكر المنظر المتكرر بعد نهاية كل زيارة، ثم العودة للمنزل وهي تحمل بين يديها أحد أطفالها، والطفل الآخر يُحكم والده عليه قبضته وهو يتجه به نحو سريره، بينما الطفل الثالث لا يزال في المقعد الخلفي من السيارة يغطُّ في نوم عميق، وكلا الزوجين ينتظر من الآخر مبادرته النبيلة لتوصيله إلى سريره بسلام! فكلاهما قد استنفد طاقته في السهر، والفجر يلوح في الأفق ويعلن تباشير صباح جديد!!

ص. ب: 260564
الرياض 11342


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved