قبل أكثر من عشر سنوات، عندما كان زميلنا الفاضل وأخي وصديقي الأستاذ القدير قينان بن عبدالله الغامدي نائب رئيس تحرير عكاظ، كان يهاتفني وأنا في لندن لمتابعة مقالاتي الأسبوعية التي كنت أشارك بها في صحيفة عكاظ.. وأذكر جيداً أنني كتبت مقالا عن (اليوميون والأسبوعيون في الصحافة السعودية).. وذكرت في ثنايا مقالي أن أصحاب المقالات اليومية يعيشون أزمة يومية بحثاً عن فكرة أو موضوع علهم يسدون بها الفراغات اليومية التي مطلوب منهم تعاقديا مع أصحاب الصحف ملؤها بالغث والسمين، والجوهري والهامشي.. ولهذا فليس خفيا علينا أن شركات العلاقات العامة تترصد للكُتَّاب اليوميين لتغذي صناديق بريدهم بالمطبوعات الدعائية عن الشركات والمؤسسات الخاصة، وكذلك يتقدم الكُتَّاب اليوميون القائمة البريدية لكل من ألف كتاباً أو جمع متناثراً أو حقق مخطوطاً.. ولهذا يتهافت الكُتَّاب اليوميون كأبواق دعائية عن كل فكرة تمر، وكل موضوع يطرح، وكل مقال يكتب.. ولهذا فقد كتبت في حينه أن الكُتَّاب اليوميين ينبغي تحاشيهم، وينبغي عدم التعرض لهم، لكونهم معرضين أكثر من غيرهم من الكُتَّاب لالتماسات كثيرة، وهم عادة شديدو الحساسية عرضة وغنيمة سهلة لكل موضوع يطرح أو فكرة تعرض، وهم - بعضهم - يتعمدون عدم فهم الأمور ويتعمدون انتزاع النقاط من على الحروف، حتى يكون لهم صيت ورواج وقابلية، وحتى يكونوا حديث المجالس الليلية والنهارية، ويكونوا مثار نقاشات القراء والمسئولين.
وأود هنا أن أشير إلى أن بعض الكُتَّاب اليوميين ربما يستحقون أن يكتبوا أكثر من مقال يومي في أكثر من صحيفة؛ نظراً للعمق الذي يتم به تناول موضوعاتهم، وللفهم الدقيق الذي يعتمدونه منهجاً كتابياً لهم.. فهؤلاء هم استثناء عن القاعدة العامة.
هذا عن بعض الكُتَّاب اليوميين، ومنهم الزميل قينان الغامدي، وكنت ونحن في رحاب استضافة الأمير خالد الفيصل وغيرها من المناسبات، اقول وأكرر- مازحا - اننا ينبغي أن نتحاشى الاحتكاك باليوميين، والحديث إليهم، والدخول في نقاش معهم، فنحن بهذا نغذي عقولهم ونحشو أقلامهم بموضوعات وأفكار قد لا تستحق النقاش على صفحات الجرائد.. وهذا ما حدث كثيراً مع كاتب يومي مثل الأستاذ قينان الغامدي.. فأنا من الحريصين على الاطلاع على كثير من كتاباته اليومية، وما دام قد طرح الأستاذ قينان موضوعاً طويلاً عريضاً عني شخصياً فأرجو أن يسمح لي القارىء أن أناقش هذا المقال بموضوعية وتجرد من خلال النقاط التالية:
1 - كعادة الأستاذ قينان الغامدي فقد خلط الأوراق كلها، وبالنسبة لموضوع المقال، فقد خلط الخاص بالعام، فقد خلط العام وهو الجمعية السعودية للإعلام والاتصال، وهي الجمعية التي أتشرف بانتسابي إليها عضوا مع أكثر من ثمانمائة عضو من النخبة الأكاديمية والإعلامية في بلادنا ومن خارج هذه البلاد، مع الخاص وهو مقال شخصي كتبته عن موضوع من الموضوعات التي شعرت بأنني أود الخوض فيها، أسوة بباقي المجموع العام سواء من داخل قاعة الندوة أو على صفحات الجرائد أو من خلال برامج الإذاعة والتلفزة.. وقد حاول الأستاذ قينان أن يقحم الجمعية، التي شعرت -وشعر زملائي من الجمعية- بأنها عبء ثقيل على كاهل زميلنا القدير قينان.. وفيما يبدو أنه حاول أن يوبخ الجمعية من خلال شخص كاتب المقال، أو أن يقلل من قدرها ومكانتها بهذا الأسلوب الكتابي الساخر.
2 - يبدو أن ندوة أبها افرزت سوء فهم اكثر من وضعها حلولا نهائية، وربما ما كنت قد عنيته في عنوان مقالي (حضور الأسئلة وغياب الإجابات)، فلا يبدو أن الزميل قينان فهم كل شيء في هذه الندوة، بدليل أنه كان إلى جانبي في الجلسة الثانية من الندوة، وبعد أن استعرض الأستاذ الدكتور محمد الخطيب كامل ورقته، التي اسس لموضوع الندوة تأسيساً علمياً، وأعطاها بُعدا منهجياً، وهي تشكل الورقة الرئيسية الثانية (الندوة ورقتان فقط)، التفت الأستاذ قينان إليَّ وسألني: هل فهمت ما يقوله الدكتور الخطيب، فأجبته بنعم..ومثلي قال زميل آخر كان يجلس إلى جواره من الطرف الآخر.. ولهذا فنحن نعتقد أن أزمة فهم كبيرة كانت قد عكستها هذه الندوة.. وفي ظني أن الأستاذ قينان لم يكن الوحيد في قاعة هذه الندوة.. وعندما كتبت مقالي ملخصا مداخلتي التي القيتها في هذه الندوة، لا يبدو أن الزميل قينان قد فهمها كذلك.. حتى بعد أن قرأها مرتين.
3 - سوء الفهم الأساسي تمثل في كون الزميل قينان وغيره ربما رأوا أن التفريق الذي طالبت به بين التعليم والإقناع لم يكن مفهوما بدرجة عالية من الوضوح، وان مثل هذا الطرح يعاكس جهود الإصلاح الوطني.. ففي نظري الشخصي أننا كمجتمع نحتاج إلى إصلاحات كثيرة بدءا من المدرسة والجامعة وانتهاء بالمؤسسات المهيمنة على المجتمع.. ولكن فيما يتعلق بقضية الإرهاب، خاصة الإرهاب الدولي الذي كان موضوع مداخلتي في أبها أو مقالي في صحيفة الجزيرة، فلم يكن من صنيعة المدرسة أو الجامعة السعودية، أي لم يكن نتاج إفرازات مؤسساتنا التعليمية.. بل كان نتاج عمليات إقناع مدروسة وغسيل أدمغة تمت في أفغانستان والباكستان وغيرها من الدول الخارجية.. ولو آمنا - كما كان ينادي الأستاذ قينان - بمقولة أن التعليم بمنهجيه الخفي والعلني، لوجب علينا أن نقتنع أن بلادنا تؤوي اليوم أكثر من اثني عشر مليون ارهابي داخل حدودها السياسية.. ولكننا نعلم -علم اليقين- أنني والأستاذ قينان الغامدي وغيرنا من مواطني هذه البلاد قد تتلمذنا على أساتذة ومشائخ وعلماء ومناهج وتعاليم، ولكنها لم تخرجنا ارهابيين.. وكذلك خريجو المدارس السعودية اليوم، الذين تخرجوا هذا العام من مختلف مدارسنا وجامعاتنا لم يكن لهم دور من قريب أو بعيد بموضوع الإرهاب.. وأخشى ما أخشاه أن يكون طرحنا عن المنهج الخفي يضعنا جميعا بضرورة المنطق المقترح في دائرة وصم إرهابي.. ونصبح في مستوى أخطر، بدلا أن نعالج قضايا ارهاب عشرين أو ثلاثين أو مائة من الإرهابيين، نكون أمام معضلة أن الأغلبية العظمى منا هم في زمرة الإرهابيين.. وهذا يشكل انقلاباً كبيراً في مفهومنا للإرهاب.
4 - استشفيت من مقالة الاستاذ قينان انه يعاتبني كثيراً على دور متواضع قمت به وزملاء آخرون من الوسط الأكاديمي والإعلامي في كوننا حاولنا واجتهدنا في شرح السياسات الداخلية والخارجية للمملكة، وهو يعلم أن كثيراً من هذه الوفود الإعلامية قد غزت بلادنا منذ فجر الحادي عشر من سبتمبر، وجاءت هذه الوفود بعد أن لاكت كل صغيرة وكبيرة، وتجرأت على كل الثوابت الدينية والسياسية، وطالت الوحدة الوطنية، وحاولت - ولا تزال- تحاول أن تخلط الأوراق، وتحاول أن تزرع الفرقة وتستنبت الخلاف والانقسام والتشرذم في بلادنا.. وكأني بمقال الأستاذ قينان يحاول أن يكفر بهذه الجهود، التي لا أدعي؛ كوني شخصا واحدا من مجموعات كبيرة كنا ندعى سواء من وزارة الإعلام أو وزارة التعليم العالي أو وزارة الداخلية أو من المؤسسات الصحافية، أو الجامعات السعودية، وقد كان لزاما علينا أن نكتب ونناقش ونحاور هذه الوفود من أجل هدف واحد.. وهو أن الحملة العدائية التي واجهتها المملكة لم تكن تستقصد الدولة أو المؤسسة، بل كانت تستقصدنا جميعاً.. كل المواطنين.. كل الافراد.. وكانت تحاول أن تنال منا في فكرنا وأمننا وديننا وسياساتنا وتعليمنا ومنهجنا.. وهدفنا نحن من الاعتراض على هذه الحملات واضح ومباشر ونحاول - قدر امكانياتنا المتواضعة- ألا نعين هذه الحملات وهذه العداءات وهذه الخصومات على أنفسنا.. وإلا نقدم لها الحطب الذي تتغذى عليه وتنمو على فتاته ورماده.
5 - اشار مقال الزميل الفاضل إلى التعريف بعملي في الجامعة وعضويتي في الجمعية في نهاية مقالاتي بصحيفة الجزيرة، وكأنه يمتعض من هذه التعريفات، ولكني - وبحكم ارتباطي الأكاديمي والمهني- أدعو كل الصحف إلى تبني هذا الخط الذي انتهجته صحيفة الجزيرة وبعض الصحف في ضرورة التعريف بكُتَّاب الصحيفة، فهذا يُعرِّف بتخصص الكاتب وارتباطاته المهنية والعلمية.. وفي ظني - وقد يشاطرني الزميل - أن تعريف قينان الغامدي بكونه كاتبا سعوديا لا يضيف جديداً للقارىء.. فما الذي يميز كاتبا آخر عن قينان بوصفه كاتبا سعوديا آخر؟.. إن المنهجية المهنية في عالم الصحافة تتطلب وجود مثل هذه التعريفات للكُتَّاب والشخصيات والصور والرسوم وغيرها.
6 - من الخلط الذي أقحمني فيه زميلي الأستاذ قينان أنه وصف كل من يؤدي واجبه ويقدم رسالة ومسئولية، بأنه شخص متطلع إلى أشياء أو مواقف أو كراسي.. وهذا إجحاف كبير بكل مواطني بلادنا، فنحن جميعاً نعمل بصفة مستمرة، وبشكل منتظم لكون هذا واجبا علينا، ومطلوبا منا القيام به.. وليس لرغبتنا أن ننال شيئا أو نقفز إلى درجات اجتماعية معينة.. ولو قمنا بتبني مثل هذا الدور، لوجدنا أنفسنا أمام معضلة أن العمل الذي يقوم به أحدنا يجب أن ينال جزاءه اليوم قبل الغد، وإلا لما عملنا أو انجزنا شيئا في حياتنا العملية والحياتية.. وليسمح لي الأستاذ الغامدي أن أعلن من على هذا المنبر.. أن آخر سبعة أسطر (من سطور الإنترنت، حيث إني لم أقرأ المقال في حينه وعلى صفحات الوطن) من مقاله لم أفهمها تماماً، فقد تموجت فيها المعاني، وتعددت فيها الأقاويل.. ولكن ظلت هناك فكرة أساسية في هذا الكلام: أن ما هو موجود في ذهنه يصبه على الورق.. كما صب هذا المقال دون مواربة أو احتيال.. وهذه صدقية عالية اعرفها في شخص الصديق العزيز قينان الغامدي، والذي تزداد صداقتي معه يوماً بعد يوم.
رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال، أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود
|