Friday 16th July,200411614العددالجمعة 28 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "أفاق اسلامية"

«الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «28» «الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «28»
الرشوة: مضيعة للحقوق.. وإخلال بميزان العدالة

* الجزيرة - خاص:
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لم تعرف الرشوة طريقها إلى مجتمع قط، إلا وكانت سبباً في انهياره، وما ذلك إلا أنها أكل لأموال وحقوق الغير بالباطل، ونفاق، وخداع، وظلم للآخرين، وتنأى بالعلاقات الإنسانية بين البشر عن طبيعتها الفطرية، وتجعلها علاقة مصلحية أنانية ظالمة، لهذا حارب الإسلام الرشوة، وتوعد الراشي والمرتشي والوسيط بينهما بأشد العقاب.
للرشوة أسباب وجذور، ولها آثار كارثية على الفرد والمجتمع، كما أوضح طرق العلاج والوقاية منها.. وفي هذه الحلقة نعرض لماهية الرشوة، وأشكالها، وأثرها في فساد الأرواح وطمس الحقائق، وتحريف الكلم عن مواضعه..
في البداية يقول معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام ورئيس مجلس الشورى: إن من شر ما تصاب به الأمم في أهلها وبنيها أن تمتد أيدي فئات من عمالها وأصحاب المسؤوليات فيها إلى تناول ما ليس بحق، فصاحب الحق عندهم لا ينال حقه إلا إذا قدم مالاً، وذو الظلامة فيهم لا ترفع مظلمته إلا إذا دفع رشوة.
وبقراءة تاريخ الأمم نجد الله سبحانه وتعالى نعت قوماً بأنهم:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}، وهم أقوام طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وانطفأت جذوة الإيمان في صدورهم، وثقلت عليهم التكاليف وكرهوا الشرائع، فأحبوا الكذب، وألفوا الزور وسمعوه وسعدوا به، وكرهوا الحق، ونبذوا الصدق {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {41} سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}، وهذه طبيعة القلوب حين تفسد، والأرواح حين تطمس، تحب الباطل والزور {قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ}.
ويضيف معالي د. بن حميد وللأسف يقول ابن حميد: إن هناك فئة في المجتمع الإسلامي سيطر الشر على تفكيرها، وامتلأت بالحرام أجوافها، فاستباحت حمى الله ومحارمه، وأكلت السحت وبذلت الرشاوى، فالكرامة ضائعة، والحقوق مهضومة، والنبوغ مقبور، والجد مدفون، والغيرة على مصالح الأمة مضمحلة، والأمانة في خدمتها غائبة، وتقدير المخلصين متلاش.
الرشوة خيانة
والرشوة خيانة عند جميع المنصفين العاقلين من أهل الأرض، وهي في دين الله أعظم إثماً وأشد مقتاً (لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي)، وذلك لأن الرشوة تخفي الجرائم، وتستر القبائح، وتزيف الحقائق، وبها يفلت المجرم، ويدان البريء، وبها يفسد ميزان العدل، الذي قامت به السماوات والأرض، وقام عليه عمران المجتمع، وهي بذلك المعول الهدام للدين والفضيلة والخلق.
والرشوة تلبس عند أهلها ثياباً مستعارة، فتأخذ صوراً متلونة، وأغراضاً متعددة، فهذه هدية وتلك إكرامية، وهذه محاباة في بيع أو شراء، وذلك إبراء من الدين، والصور في ذلك لا تتناهى، وسبل الشياطين وأعوانهم في ذلك عريضة واسعة، وهي منتشرة في القطاع العام والقطاع الخاص، وفي المؤسسات والشركات.
وأغراض الرشوة عندهم متعددة، ومنها: طمس الحقائق، أو سكوت على باطل، وتقديم لمتأخر، وتأخير لمتقدم، ورفع لخامل، ومنع لكفء، وتغيير للشروط، وإخلال بالمواصفات، وعبث بالمناقصات، وتلاعب في المواعيد، وهي أغراض لا تتناهى، أما الراشي والمرتشي والرائش فإنهم - لا بارك الله فيهم ولا لهم - متساعدون على تضييع الحقوق، يروجون لأكل أموال الناس بالباطل، ويزرعون السيئ من الأخلاق، ومن ثم تستمرئ الأمة هذا المرعى الوبيل.. والراشي والمرتشي والرائش ملعونون عند الله على لسان رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، مطردون من رحمة الله ممحوق كسبهم، زائلة بركتهم، خسروا دينهم وأضاعوا أمانتهم، استسلموا للمطامع، واستعبدتهم الأهواء وأغضبوا الرب، وخانوا الإخوان، وغشوا الأمة.
حقوق طمست
فكم من مظالم انتهكت، ودماء ضُيعت؟ وحقوق طمست، ما أضاعها وما طمسها إلا الراشون والمرتشون، فحسبهم الله الذي لا تنام عينه، وويل لهم مما عملت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون.
ويعتبر د. ابن حميد أن الرشوة فخ المروءة، ومصيدة الأمانة، وغرق الديانة وحبائل الشرف، وبفشوها تصاب مصالح الأمة بالشلل، وعقول النابغة بالقصم، ومواهب المفكرين بالجمود، وجهود العاملين بالفتور وعزائم المجدين بالخور، فأي خير يرجى في قوم مقياس الكفاءة فيهم ما يتزلف به المرؤوس لرؤسائه من قرابين؟! وأي إنتاج يرتجى لأعمال لا تسير إلا بعد هدايا الراشين والمرتشين؟!.
فبسبب الرشوة كم نفدت من ثروات، وهدمت من بيوت، وأهينت نفوس، وفرقت جماعات، وارتفع باطل، وغاب حق، وما كان ذلك إلا بسبب الرشاوي المحرمة، والخصومات الفاجرة، والإدلاء إلى الحكام بالباطل، والأعجب، أن نرى في المفتونين من هؤلاء من يزعم أنه ذو شطارة ودهاء، وقد عمي عما أصابه من الأرزاء، وتعب النفس والقلب، وإيذاء عباد الله والاستغراق في الحرام، فتراه مع أقرانه بالفسق يتنابذون، بالحسد والكيد يتعاملون، ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الخاسرون، ولقد جاء في الخبر عنه- صلى الله عليه وسلم-:( وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)، (والراشي والمرتشي في النار).
وقد أخرج البخاري- رحمه الله- في صحيحه عن أبي حميد الساعدي- رضي الله عنه- قال: استعمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقام النبي- صلى الله عليه وسلم- فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:( ما بال العامل نبعثه فيأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ألا هل بلغت - ثلاثاً)، بلى لقد بلغ- عليه الصلاة والسلام-، فوالله (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله، من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)، وإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، فأنى صلاح لمن يأكلون الرشوة، وهم ذوو جرأة على الله، حتى إنهم ليأخذون من الحرام الصراح، لا يتوبون ولا هم يذكرون؟!
يقول يوسف بن أسباط: إن الرجل إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه، قال الحافظ الذهبي- رحمه الله-: ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:( في الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟).
حقيقة الرشوة
أما فضيلة الشيخ حسين آل الشيخ إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف يصف الرشوة بأنها أكل للأموال بالباطل، وتناول للسحت، حيث يقول جل وعلا:{وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}، ويروى عن عمر- رضي الله عنه- أنه قال:( بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشا ومهر الزانية).
ويحذر آل الشيخ من الرشوة، مؤكداً أنها داء وبيل ومرض خطير، خطرها على الأفراد عظيم، وفسادها للمجتمع كبير، فما يقع فيها امرؤ إلا ومحقت منه البركة في صحته ووقته ورزقه وعياله وعمره، وما تدنس بها أحد إلا وحجبت دعوته، وذهبت مروءته، وفسدت أخلاقه، ونزع حياؤه، وساء منبته، في الحديث (كل لحم نبت من سحت، فالنار أولى به) قيل: وما السحت؟ قال:( الرشوة في الحكم).
ومن آثارها أنها تسبب الهلاك والخسران للمجتمعات، تفسد أحوالها، وتنشر الظلم فيها، بل ما تفشت في مجتمع إلا وغابت منه الفضيلة، وحلت فيه الرذيلة والكراهية والأحقاد، وما وقعت في أمة إلا وحل فيها الغش محل النصيحة، والخيانة محل الأمانة، والظلم محل العدل، والخوف محل الأمن، والرشوة في المجتمع دعوة قبيحة لنشر الرذائل والفساد، وإطلاق العنان لرغبات النفوس، وانتشار الاختلاف والتزوير، واستغلال السلطة والتحايل على النظام، فتتعطل حينئذ مصالح المجتمع، ويسود فيه الشر والظلم، وينتشر بينه البؤس والفقر والشقاء، وفي المسند مرفوعاً وله شواهد:( ما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب).
ويتحدث الشيخ آل الشيخ عن حقيقة الرشوة، فيقول: وهي كل ما يدفعه المرء لمن تولى عملاً من أعمال المسلمين ليتوصل به إلى ما لا يحل له، وهي تأتي على صور كثيرة، من أعظمها ما يعطى لإبطال حق، أو إحقاق باطل، أو لظلم أحد من الناس، ومن صورها دفع المال في مقابل قضاء مصلحة يجب على المسؤول عنها قضاؤها بدون هذا المقابل، أو هي كما قال بعض أهل العلم: ما يؤخذ عما وجب على الشخص فعله، ومن صورها أيضاً من رشا ليعطى ما ليس له، أو ليدفع حقاً قد لزمه، أو رشا ليفضل أو يقدم على غيره من المستحقين.
والرشوة محرمة في الإسلام بأي صورة كانت، وبأي اسم سميت، سواء سميت هدية أو مكافأة أو تركة، فالعبرة للحقائق والمعاني لا للألفاظ والمباني، ومن المقررات في شريعة محمد- صلى الله عليه وسلم- أن هدايا العمال غلول، والمراد بالعمال كل من تولى عملاً للمسلمين، وهذا يشمل السلطان ونوابه وموظفيه، أياً كانت مسؤولياتهم، ومهما اختلفت مراتبهم وتنوعت درجاتهم، روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي- رضي الله عنه- قال: استعمل الني- صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزد، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ( ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟! أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أو لا؟! والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه)، قال الخطابي- رحمه الله:( في هذا بيان أن هدايا العمال سحت، وأنه ليس سبيلها سبيل الهدايا المباحة، وإنما يهدى إليه للمحاباة، وليخفف عنه المهدي، ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة منه، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله)، وقال الشوكاني- رحمه الله-:( إن الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم هي نوع من الرشوة، لأن المهدي إذا لم يكن معتاداً للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض، وهو إما التقوي به على باطله، أو التوصل بهديته إلى حقه، والكل حرام)، وقال غيرهما من أهل العلم: ويتعين على الحاكم ومن وله ولاية تتعلق بأمور الناس ألا يقبل الهدية ممن لم يكن معتاداً الإهداء إليه قبل ولايته، فهي في المقام تعتبر رشوة.
ويفرق آل الشيخ بين الرشوة والشفاعة، فيقول: إن الشفاعة من فضائل الأعمال، وتكون بالتوسط فيما يترتب عليه الخير من دفع ضر أو جلب نفع ابتغاء وجه الله، وروى البخاري عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)، ولكن من شفع شفاعة حسنة حرم عليه قبول الهدية عن هذه الشفاعة، جاء في سنن أبي داود بسند حسن عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال:( من شفع لأخيه بشفاعة فأهدي له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)، قال ابن مسعود- رضي الله عنه-:( السحت أن تطلب لأخيك الحاجة فتقضي فيهدى إليك هدية فتقبلها منه)، جاء أن عمر بن عبدالعزيز- رحمه الله- اشتهى التفاح فلم يجده في بيته، ولا ما يشتري به، فخرج فتلقاه غلمان بأطباق التفاح، فتناول واحدة فشمها، ثم رد الأطباق، فقيل له في ذلك، فقال: لا حاجة لي فيها، فقيل له، ألم يكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؟! قال: إنها لأولئك هدية، وهي للعمال بعدهم رشوة.
مرتكبها خائن للأمانة
من جانبه يؤكد الشيخ عبدالعزيز بن محمد النصار القاضي بديوان المظالم بالدمام أن الرشوة جريمة عظيمة وكبيرة من كبائر الذنوب، مرتكبها خائن للأمانة، متوعد بالطرد من رحمة الله تعالى، دافعها الطمع وعدم الرضا بما قسم الله، نتيجتها تفشي الظلم والتعدي على حقوق الآخرين وأكل أموال الناس بالباطل.
ويضيف الشيخ النصار: والرشوة نوع من السحت المحرم بالكتاب والسنة، وقد ذم الله تعالى اليهود وشنع عليهم لأكلهم السحت، قال تعالى {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}، وروي عن الحسن وسعيد بن جبير في تفسيره أنه الرشوة، وقال جل ذكره: {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {62} لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}، وروي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به، قيل: وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم) رواه ابن جرير، وروى الإمام أحمد بن عمرو بن العاص- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول:( ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب).
وقد توعد الله هؤلاء بأشد العقاب، وبلغ الوعيد عليها ما بلغ لفداحة أمرها، وعظم المصيبة، فهي فساد في الطوية، وتعد على حقوق البرية، استهانة بحدود الله تعالى، ضياع للأمانة وطمع، وغش وخيانة وجشع، وهي سبب لخراب البلاد والعباد، إذ يأخذ الحق من لا يستحقه، ويسند الأمر إلى غير أهله، هدم للتنمية وإعاقة للإنجازات، فساد في المناقصات وإخلال بالمشروعات، تقوم بها الأمور على الزيف والتزوير، وتنهار بسببها الثقافة والتعليم، تهون النفوس على أصحابها، وبسببها تنتشر الرذيلة، وتغيب الفضيلة، فتنشأ الأحقاد بين الناس وتزداد، وتسود الكراهية بين الجماعات والأفراد، فيكثر التناحر والتباغض، وتفيض الخصومات والمشكلات فتقوض أركان المجتمع وتنهار مقوماته.
أسماء مستعارة
ويوضح النصار أنه لا يغير من حقيقة الرشوة وتحريمها أن يستعار لها اسم غير اسمها، أو أن تزين بثوب غير ثوبها، فتارة يقال هدية ومرة إكرامية، وأخرى تكون محاباة في بيع أو شراء وغيرها أولوية في مساهمة أو استئجار، وتلك إبراء من دين أو تنازل عن حق وغيرها من الصور والأشكال، فالعبرة بحقيقة القصد والمآل، وليس بظاهر تزيين الشيطان، فالباذل يدرك هدفه من البذل والمبذول له قد جعل له عطاء على وظيفته، ولا يجوز له أخذ ميزة على ذلك العمل، والإثم ما حاك في النفس، والمحاسب هو الله سبحانه وهو الذي يتولى السرائر وهو العليم الخبير.
والهدية لمن تولى أمراً من أمور المسلمين وعملاً من أعمالهم محرمة، وهي من الغلول لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: هدايا العمال غلول) رواه الإمام أحمد، والعمال هم كل من تولى عملا من أعمال الناس أياً كانت مسؤوليته، والغلول: الخيانة والأخذ بغير حق، ولا يخفى على عاقل أن الهداية من صاحب الحاجة تؤثر في ذلك المسؤول الذي لديه قضاؤها، قال كعب الأحبار: قرأت في بعض ما أنزل الله على أنبيائه، الهدية تفقأ عين الحكم.
ويقول الشيخ النصار: وهناك فرق بين الشفاعة والرشوة، فالشفاعة بين الناس يتم فيها التوسط بين صاحب الحاجة ومن يملك قضاءها، لا يدفع فيها صاحب الحاجة مالاً أو منفعة لمن يقوم بإنجاز العمل، وإنما يستعين بشخص ذي جاه أو مكانة أو قرابة يتوسط له لإنجاز عمله، وإن كان فيها إثم وعدوان وسعي لتعطيل حدود الله تعالى، وانتهاك حرماته وتهاون في تنفيذ العقوبات على المذنبين ومنع الناس حقوقهم، وإعطاؤها لغير مستحقها، فإنها شفاعة سيئة لا تقل سوءا أو تحريماً عن جريمة الرشوة، لانها منتجة لآثار الرشوة تؤكل فيها الحقوق بالباطل، وتؤدي إلى فساد المجتمع، أما إذا كانت الشفاعة توسطاً لجلب حق لمن يستحقه أو دفع بلاء أو أذى عن شخص يستحق دفعه عنه فإنها شفاعة حسنة من التعاون على البر والتقوى.
ولا يجوز لمن قام بتلك الشفاعة الحسنة وسعى بالوساطة، ولا لمن شفع عنده أن يأخذ عنها مقابلاً لها من مال أو منفعة، وجاء في سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد وغيرهما عن أبي أمامة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال:( من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)، وسئل ابن مسعود عن السحت؟ فقال:( أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدي لك هدية فتقبلها، فقال: أرأيت إن كانت هدية في باطل؟ فقال: ذلك كفر {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved