إن مدار كمال المخلوق على حب الحق وكراهية الباطل ، وهذا أصل فطر الله الناس عليه ، قال سبحانه: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ، وقد بيّن الله للنفس البشرية الخير من الشر والهدى من الضلال والطاعة من المعصية ، قال جل ذكره: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ، وقال تعالى: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } ، وقال سبحانه: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } أي : طريقي الخير والشر وبيّنا له الهدى من الضلال ، والرشد من الغي ، فمن اختار مقتضى الفطرة ، وصبر على ما فيه من المشقة ، والعناء والبلاء وعما في خلافه من الراحة واللذة العاجلة استحق أن يحمد فاستحق الكمال فناله ، ومن آثر الشهوة ، واتبع الهوى استحق الذم فسقط ، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة وأنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (حُفَّت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) ، وقد أخبر الله أنه قد قضى على عباده بالابتلاء في الدنيا كما في قوله سبحانه : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } وقوله جل ذكره : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } والمقصود من هذا الابتلاء ، ليتبين حال الإنسان فيفوز من صبر على تحمل المشاق ، وثبت على الحق وأعرض عما يراه في الباطل من الهوى والشهوات ، وعلم أن الدنيا زائلة وأن الذي يستحق العناية هو أمر الآخرة ويخسر من يلجأ إلى الباطل ويركب مطيّة الهوى والشهوات.
والبلاء لا يقتصر على الشدائد فحسب بل يكون في المسرات والنعم { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً }.
لقد حذر الله عباده غاية الحذر من اتباع الهوى لأنه أعدى عدو للإنسان يصده عن الخير ويوقعه في الشر قال سبحانه:{ فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } وقال تعالى : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } وقال جل ذكره : { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } ، لأن اتباع الهوى يدعو إلى الاستغراق في الملذات والشهوات ، وهذا الاستغراق يمنع من الطاعة وطلب السعادة القلبية ، التي هي الباقيات الصالحات.
والهوى : هو محبة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه وميل نفسه إلى الشهوة ، وسمي بذلك : لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية ، ومن أسماء جهنم - أعاذنا الله منها - الهاوية في قوله تعالى : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } سميت بذلك : لأنها تهوي بأهلها من أعلاها إلى قعرها.
وقد دلت نصوص الشرع على أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، والضلال عن سبيل الله يوجب العذاب كما قال جل ذكره : {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وقال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ } ، وتأمل رعاك الله أن كل موضوع ذكر الله فيه الهوى فإنما جاء في معرض الذم له ولمتبعه ، لأن قصد الشارع من ذلك الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى ، ومن استحوذ عليه إيثار الهوى في حياته تكون الدنيا أعظم همه ، فينعكس عليه الباطل فيراه حقاً فإذا توافرت له نعم الدنيا ولم تنله مصائبها رضي عن ربه ودينه ، وإذا أصابته المصائب غضب وسخط فهو يعد نعم الدنيا ومصائبها أعظم دليل على رضا الله وسخطه { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ {15} وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ {16} كَلَّا}.
وبهذا نعلم أن مدار الفوز أو الخسران على الإيثار ، فمن آثر الحق والاتباع فقد فاز ، ومن آثر الباطل والهوى فقد خسر {فَأَمَّا مَن طَغَى {37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {38} فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} ، وبسبب اتباع الهوى ضل كثير من الناس الطريق الأقوم ، ووقعوا في البدع الحادثة فيهم عن الطريق المستقيم ، وبسبب اتباع الهوى يقع الناس في الخلاف المذموم ويكونوا شيعاً وأحزاباً متفرقة ، لا ينتظم شملهم ولا تجتمع كلمتهم { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ، واصل الزيغ عن الصراط المستقيم سببه اتباع الهوى ، لأن أهل الأهواء يتركون الواضح من الأدلة ويتبعون المتشابه منها ، لأن في قلوبهم زيغاً عن الحق ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء ، كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء ، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه ، والعلم بالدين لا يكون الا بهدى الله الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن اوضح الادلة على غلبة الهوى على الناس ان يكون حب العبد وبغضه تبعا لهواه ، فمن الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله.
والواجب على العبد أن يكون حبه وبغضه مبنياً على الحق الذي بعث الله به رسوله ، ولا يجعل حبه وبغضه تبعاً لهواه ، فمن أحب وأبغض بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ إله هواه كما أخبر الله بقوله : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا }.
إن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده ، بالهوى يخرج العالم من السنة إلى البدعة ، وبالهوى يقع الزاهد في الرياء والسمعة ، وبالهوى يقع المسؤول في الظلم ويبتعد عن الحق والعدل والحكمة ، وبالهوى تستلذ النفوس بالمعصية وتنفر من الطاعة ، إذا ساد الهوى واختلفت النيات تولدت الجرأة على الله وعلى الناس وفشت الطعون والمكائد ، ونصبت حبائل المكر ، وسبل الخديعة ثم تحصل الفرقة والشحناء ويتمكن الأعداء) ا.هـ
إن الهوى إذا سيطر على قلب العبد جرّأه على فعل المعاصي وانتهاك الحرمات وتعدي الحدود ، فصاحب الهوى يخدع نفسه ويقول : أرّوح عن نفسي فإن لي حسنات كثيرة لعلها تغطي هذا التقصير ، أو لعل الله يغفر لي ، أو أتمتع ثم أتوب وما أشبه ذلك من ألاعيب النفس وخدع الشيطان.
إن من عرف الحق وكرهه ، وعلم خطر الهوى واستسلم له فإنما يستحق أن يزيده الله ضلالاً على ضلال ، فليتق الله من عرف الحق ولم يتبعه ، وليفكر في عظمة الله جل وعز وأنه سبحانه يحب الحق ويكره الباطل ، وأن من اتبع الحق استحق رضوان الله ، ومن أخلد إلى الباطل واستسلم للهوى استحق سخط رب العالمين وغضبه ومقته وعقابه ، وليأخذ الإنسان نفسه بخلاف هواها فلا يسامحها في ترك واجب أو ما يقرب منه ، ولا في ارتكاب معصية أو ما يقرب منها ، ولا في هجوم على مشتبه بل يروضها على التثبت والخضوع للحق ، ويشدد عليها في ذلك حتى يصير الخضوع للحق ومخالفة الهوى عادة له.
ولا تتضح الحجة للمؤمن إلا بمداومة جهاد النفس والهوى ، لأن الشبهات لا تزال تحوم حول المؤمن لتحجب عنه الحجة وتشككه فيها والشهوات تساعدها ، فثباته على الإيمان برهان على صدق محبته للحق وإيثاره على الهوى.
فالزموا اتباع الحق ، والصراط المستقيم ، واجتمعوا عليه, وإياكم والانسياق في الهوى وشهوات النفس وخطوات الشيطان ، وجاهدوا أنفسكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
اللهم اعصمنا وذرياتنا وإخواننا المسلمين من اتباع الهوى يا ذا الجلال والإكرام.
( * ) الرياض |