لا ريب أن أمتنا العربية أمة فتية، حيث يشكل الأطفال والشباب دون سن الرابعة والعشرين عاماً نسبةً كبيرةً من المجتمع العربي تفوق - حسب بعض التقديرات - 50 % من مجموع السكان. ومع ازدياد معدلات التحضر في الوطن العربي في العقود الأخيرة، حيث تجاوزت نسبة سكان الحضر فيه 60% من مجموع السكان، وتزايد التوجه نحو اللا مركزية الإدارية، وازدياد مسؤوليات الإدارات المحلية في العالم العربي، يقع على المدن والبلديات عبءٌ كبيرٌ في التصدي لاحتياجات ومتطلبات الأطفال في المدن من مكتبات عامة، وحدائق وساحات وميادين، وطرق وممرات ممهدة وآمنة، وتجهيزات خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة منهم، وموجهات تخطيط ولوائح بناء تراعي متطلباتهم، وفوق هذا كله توفير القنوات المناسبة للتشاور معهم وإشراكهم في المسائل المتعلقة بهم في المدن، باعتبار ذلك كله حقاً مشروعاً للأطفال كفلته لهم الشرائع السماوية والقوانين والاتفاقيات الدولية.
وعلى الرغم من أن أغلب المدن والبلديات العربية يقتصر مجال عملها على الخدمات البلدية المعتادة مثل صيانة الشوارع وصحة البيئة والتخلص من النفايات وإصدار تراخيص البناء وما إلى ذلك، إلا أن العديد منها قد بدأ في التصدي لقضايا اجتماعية ملحة مثل الاهتمام بالفئات الضعيفة من سكانها كالأطفال والمسنين والنساء وغيرهم، والتصدي لاحتياجاتهم الخاصة في المدن، حيث إن بعض المظاهر الاجتماعية السالبة (مثل انتشار المشردين وأطفال الشوارع) تؤثر سلباً على فاعلية المدن وجاذبيتها للسياح والمستثمرين، مهما بذلت إدارات المدن من جهود لتنميتها وتطويرها عمرانياً. فأمانات المدن والبلديات هي التي يقع عليها العبء المباشر مثلاً في اختيار وتهيئة الأراضي المناسبة لبناء المدارس ورياض الأطفال والملاعب والمراكز الثقافية وغيرها. وكم من المدن والبلديات عزفت عن أداء هذا الدور المهم، مما قد يضطر بعضها أمام شح مواردها المالية إلى بيع الساحات العامة والأراضي المخصصة للمدارس، مما لا تتوافر معه مساحات شاغرة مناسبة لذلك، الأمر الذي يضطر الإدارات المعنية بالتعليم والترويح إلى صرف مبالغ طائلة لاستملاك الأراضي من القطاع الخاص.
ومن الملاحظ أيضاً أن موجهات التخطيط العمراني في العديد من الدول العربية لا تهتم باحتياجات الأطفال في المدن مثل توفير العدد الكافي من المدارس وتوزيعها بحيث يتمكن كل طفل من الوصول إلى مدرسته راجلاً دون كبير عناء ودون الخوف على حياته من السيارات والحافلات، وكذلك ضرورة توفير مساحات مفتوحة داخل المجمعات السكنية تخصص للعب الأطفال، حيث يعدّ ذلك من الحاجات الضرورية للنمو النفسي والبدني السليم للأطفال. ومن ناحية أخرى لا تهتم العديد من المدن بتسهيل حركة وتنقل الأطفال والشباب المعوقين حركياً بين أجزاء المدينة المختلفة عن طريق الممرات والأرصفة الممهدة، ووسائل المواصلات العامة المهيأة لنقلهم جنباً إلى جنب مع بقية أفراد المجتمع.
وأمناء المدن ورؤساء البلديات مؤهلون ومطالبون (شرعاً وأخلاقياً) للاضطلاع بدور أكبر لمعالجة مثل تلك القضايا لأنهم الأقرب للمواطنين، وأعرف باحتياجات المجتمع المحلي وأولوياته، وباستطاعتهم استحداث السياسات التي من شأنها تنسيق وتوحيد الجهود وتحفيز القطاع الخاص للعب دور أكبر في توفير بعض الخدمات لتلك الفئات، كما أن التخطيط الاستراتيجي الشامل الذي تضطلع به المدن والبلديات هو الإطار الذي ينسق عمل المؤسسات والجهات الأخرى المعنية مباشرة بالتعليم والصحة والأمن وغيرها من الخدمات الضرورية.
وقد عمل المعهد العربي لإنماء المدن (الجهاز العلمي والفني لمنظمة المدن العربية) خلال السنوات الأخيرة جاداً لزيادة اهتمام المسؤولين بالمدن والبلديات العربية بقضايا هذه الشريحة الكبيرة والمهمة من المجتمع، وبدأ ذلك بالمؤتمر الدولي (الأطفال والمدينة) الذي نظمه المعهد والبنك الدولي وأمانة عمّان الكبرى بمدينة عمّان بالمملكة الأردنية الهاشمية، في ديسمبر من عام 2002م، والذي صدر عنه (إعلان عمّان حول الأطفال والمدينة) وما حواه من التزام المسؤولين والمشاركين في المؤتمر بالعمل سوياً على جعل المدن العربية أكثر ملاءمة لنشأة الأطفال، وتوفير شروط السلامة والأمن وفرص العيش الكريم لجميع الأطفال فيها بغض النظر عن نوعهم وخلفياتهم الاجتماعية والدينية، كما أكد المشاركون التزامهم بإشراك الأطفال في عملية صناعة القرار فيما يخص شؤونهم واحتياجاتهم في المدن، ونادى المؤتمرون أيضا بضرورة إنشاء صندوق إقليمي يسهم في تمويل المشروعات البلدية والمحلية الموجهة للأطفال في المدن العربية.
كما شارك المعهد في تنظيم المؤتمر الدولي (الأطفال وحوض البحر الأبيض المتوسط) بالتعاون مع البنك الدولي ومدينة جنوة ومنظمة قاسليني الإيطالية في يناير 2004م، والذي ناقش قضايا الصحة والثقافة والمحيط الحضري المؤثرة في الأطفال. ونادى المؤتمرون بالمزيد من التعاون بين المؤسسات والباحثين في إقليم البحر الأبيض المتوسط. وسينظم المعهد بالتعاون مع البنك الدولي وبلدية دبي مؤتمراً دولياً آخر يعنى بقضايا الأطفال والشباب بالتركيز على أولويات التعليم، وذلك خلال الفترة 17-19 أبريل 2005م. كما يناقش المعهد حالياً مع صندوق الأمم المتحدة للسكان بعض البرامج والمبادرات الأخرى التي تصبّ جميعها في مصلحة الأطفال والشباب وأسرهم في المنطقة.
وقد سعى المعهد حثيثاً لتفعيل مقررات وتوصيات (إعلان عمّان) ووضعها موضع التنفيذ، فأطلق بالتعاون مع البنك الدولي (مبادرة حماية الأطفال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) التي يستضيفها المعهد بمقره في مدينة الرياض، بدعم مالي وفني من البنك الدولي والمعهد. وتهدف المبادرة إلى الإسهام في تحسين أوضاع الأطفال عامة، والأقل حظاً، والمعرضين للمخاطر منهم (ويقصد بهم الأطفال الفقراء، والعاملون، والمعوقون، والأيتام، ومجهولو النسب، والمشردون، واللاجئون، والنازحون، والإناث، والمتأثرون بأعمال العنف)، من خلال نشاطات موجهة ترتقي بقدرات الإدارات المحلية وتهتم بتطوير المعرفة وذلك من خلال:
1- بناء قاعدة للمعرفة تتناول القضايا الرئيسية التي تواجه الأطفال في المنطقة.
2- تعزيز وبناء قدرات الإدارات المحلية؛ حتى تتمكن من معالجة تلك القضايا والاحتياجات بكفاءة عالية.
3- تكوين آلية تمويل مرنة تهدف إلى دعم البرامج والمبادرات المعنية بالطفولة التي تنفذها البلديات والمؤسسات.
وقد بدأت المبادرة في مرحلتها الأولى بإجراء دراسات تقييمية لأوضاع الأطفال والمؤسسات المعنية بهم في مدن الرياض، عمّان، الخرطوم، الإسكندرية، صنعاء، بيروت، الدار البيضاء، والمدينة المنورة، وتشتمل المرحلة التالية على دراسات مماثلة في الكويت، غزة، دمشق، والجزائر. وأقامت المبادرة خلال الفترة 12-13 مايو 2004م بالقاهرة ورشة عمل خصصت لمناقشة النتائج الأولية لتلك الدراسات والبرامج المقترحة للمرحلة التالية، شارك فيها 71 مشاركاً من كبار المسؤولين بالمدن والبلديات العربية وأمناء مجالس الطفولة ببعض الدول العربية والعديد من المنظمات الدولية والإقليمية وبعض الباحثين والخبراء. وأوصت الورشة بضرورة العمل على تعزيز قواعد المعلومات فيما يتعلق بأوضاع الأطفال في المدن العربية، والتركيز على زيادة اهتمام أمانات المدن والبلديات بهم واضطلاعها بدورها الرائد في الارتقاء بأوضاع الأطفال والشباب فيها. وقد أكدت بعض المؤسسات الإقليمية والدولية (منظمة اليونيسيف، جامعة الدول العربية، برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية، والمجلس العربي للطفولة والتنمية) ترحيبها بانطلاق المبادرة والتزامها التام بدعم برامجها.
وستشهد المرحلة القادمة انطلاقة قوية للمبادرة في تنفيذ برامجها حيث تعد العدة لانعقاد الاجتماع الأول للهيئة الاستشارية للمبادرة، كما تجري حالياً دراسة لإنشاء آلية التمويل بالاستفادة من التجارب الإقليمية والدولية في هذا الجانب، وستشمل المرحلة القادمة تنفيذ برامج لبناء القدرات المؤسسية وتقديم الدعم الفني والمادي للمدن والبلديات العربية وذلك حسب استجابتها واستعدادها. كما ستعمل المبادرة على بناء قواعد المعلومات والمعرفة وإجراء بحوث وإصدار المطبوعات حول قضايا الطفولة وإنشاء موقع متخصص على شبكة الإنترنت يصبح مرجعاً لكل ما له صلة بالطفولة في المنطقة، كما ستعمل المبادرة أيضاً على تنفيذ بعض المشروعات النموذجية في بعض المدن العربية وفقاً لاهتمامها وتجاوبها مع أهداف المبادرة، والاستفادة من المشروعات والتجارب الناجحة في التصدي لاحتياجات الأطفال وتعميم الدروس المستفادة منها، ومن ذلك مثلاً مشروع المدن الصديقة للأطفال وغيرها. وستشرع المبادرة أيضاً في حث المدن على مراجعة لوائح التخطيط الحضري وقوانين البناء فيها لتتلاءم مع احتياجات الأطفال.
إن تحقيق الأهداف السامية التي ترمي إليها (مبادرة حماية الأطفال) في المعهد العربي لإنماء المدن بالرياض يتطلب تضافر جهود جميع الجهات المعنية محلياً ووطنياً وإقليمياً ودولياً، ولذلك فإن المعهد العربي لإنماء المدن حريص أشد الحرص على مدّ جسور التعاون والتنسيق مع تلك الجهات، وخاصة أمانات المدن والبلديات العربية، وإننا نتطلع إلى تعاونها الصادق والوثيق معنا في النهوض بأطفالنا الأعزاء؛ فهم نصف الحاضر وكل المستقبل، وهم أمل الأمة العربية وذخرها. كما نأمل من المؤسسات الإقليمية والدولية المانحة تقديم الدعم المادي لصندوق المبادرة؛ الأمر الذي سيضمن استدامتها واستمرارها في تحقيق أهدافها السامية.
* رئيس مجلس الأمناء رئيس المعهد العربي لإنماء المدن
|