Friday 16th July,200411614العددالجمعة 28 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

باختصار باختصار
بلغنا الشرشورة
نورة المسلّم

أسكن في عمارة من اثني عشر طابقاً , حظي منها أحد الأدوار السفلى , ولم اتخيل أن يسقط شيء أمام عيني لضعفي تجاه مسألة السقوط هذه, لكن أن ينحدر أمام عينيك إنسان ومن الطابق الأعلى فهذا هو قمة الفاجعة, وهو ما حدث في عمارتنا الحزينة بعد ما سقط عامل من دولة عربية أثناء أداء عمله.
وقع الرجل على الأرض كأي قطعة أهملت وبقي ممدداً أمام أعيننا وعلى مرأى من عيون صغاري الذين لا يتجاوز أكبرهم الخامسة.. كانت الساعة الثانية عشرة ظهراً, تجمع حوله زملاؤه وفريق الصيانة لكنهم كانوا يرقبونه من بعيد, لم يستطع أحد منهم أن يدنو من قلبه ليجس نبضه أو للبحث عن شعرة إنسانية تربطه بالحياة.
تحدثت من هول الحدث مع المسؤول الذي كان مرتبكاً ومن جنسية عربية، وقلت لماذا لاتحاولون إسعافه؟.. قال: أخشى من المساءلة, كما أننا أبلغنا الشرطة. وحيث إننا كنا جميعاً نرقب الحدث ومرت ساعة واثنتان, توقعت أنني أستطيع أن أفعل شيئاً, فاتصلت بأقرب مركز للشرطة وشرحت ذلك المنظر والرجل ملقى في الشمس, فوجئت بأن لديه علماً بذلك بعد ما سبقني قائلاً: عامل سقط من الدور العاشر؟.. أجبته بحرقه: لا من الدور الثاني عشر.. قال كله واحد.. الرجل أكيد ميت وخالص.. بلغنا الشرشورة والضابط.
كنت لا أدري ماهي الشرشورة، وتوقعت أنها شتيمة لي!.
مرت ساعة أخرى وصغاري يتناوبون على النافذة التي ترقد تحتها جثة هذا العامل المسكين, وقد أفهمتهم أنه نائم, فقالوا لماذا لا تتصلين بأمه كي تعاقبه لأنه ينام على البلاط حافي القدمين؟.
عاودت اتصالي بنفس المركز، أجابني من سوء حظي أحدهم قائلا: بلغنا الضابط.. قلت له ماذا يعني أن تبلغ الضابط, متى سينقل جثمان هذا الرجل الذي لا يتناسب تركه مع كرامة الإنسان وحرمة الميت، ونحن من فزعنا نتقطع ألما لرؤيته؟.
قال لي: هل سقط من بيتك؟.. أجبته لا.. قال: لماذا تنظرين إليه؟.. و(بعدين وش هامك الحين، لا تناظرين فيه، ولا تعلمينا شغلنا.. وأقفل الهاتف).
في تلك الأثناء كانت سيارة الهلال الأحمر السعودي قد أتت وعاينته , ثم تركوه كما هو وذهبوا بعد ما تأكدوا من وفاته.. بلغت الساعه الثالثة والنصف وربما كانت الساعة الرابعة قد تجاوزت عقاربها بقليل عندما أتت الشرطة ولا أدري ما الذي حدث, بعد ما هالنا المنظر، وبقي خيال تلك الجثة الممددة أمام أعيننا يلاحقنا أياماً.
السؤال هنا: من المسؤول عن مثل هذه الإجراءات الروتينية البطيئة؟ كيف لنا أن نتجاوز عبارة: لقد بلغنا؟ وأين يذهب هذا البلاغ ؟ وماهي أهمية الإنسان وماهيته في مسألة التنفيذ؟.. كيف لنا أن نستوعب القيمة والكرامة لبني آدم التي تواصينا عليها وأن كرامة الميت في دفنه، والتعامل مع مثل هذه الأمور الإنسانية بطريقة تليق بمشاعر الحي والميت؟.
قد لا أعرف إن كان للبيروقراطية دور في هذا، إلا أن من الواضح أن سمومها تبلغ بها حد الموت، وأن ما بعد الموت إلا الموت وحده, بدليل إصرار المسؤول على إفهامي أنني بالغت في مشاعري وأنني يجب أن أغلق نافذتي على أحاسيسي ورحمتي لذلك المسكين, وأن الأمل في إنقاذه كان تقديرياً ومعدوماً من مبدأ أن الناس تخشى من تحمل المسؤولية.
ندرك أن الأعمار بيد الله وحده, إلا أنه أوصانا بالتراحم والرفق بغيرنا, ولو كانت قطة صغيرة لهال النفس البشرية رؤيتها نافقه ملقاة في الشمس لمدة ساعات.
إنه نداء عاجل وإنساني يقطر ألماً, إلى الجهات المسؤولة بسرعة إنهاء إجراءات الموتى، وأن يتعاملوا بمبدأ إكرام الميت دفنه وتقدير آدميته, لأن ما من إنسان يعرف ساعته وشكل نهايته، والعلم عند الله.
أما الأمل فهو أن تتطور هذه المسألة بشكل يليق بإنسانيتنا وأن لا يتم التفريق بين رجل ميت تطالب روحه بصون جثمانه, أو آخر تحرث أقدامه الأرض بحثاً عن معاملة مخنوقة في إحدى الدوائر!.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved