يعتبر مصطلح العولمة من أهم وأخطر المصطلحات السياسية الحديثة التي دخلت إلى علم العلاقات الدولية والفكر السياسي والاقتصادي المعاصر, وهو يتضمن دلالات ومؤشرات مهمة تدل وتكشف عن سمات وماهية النظام الدولي الجديد الذي تبلور بوضوح مع نهاية الحرب الباردة التي طبعت العلاقات الدولية من الحرب العالمية الثانية وإلى انفراط عقد الاتحاد السوفياتي في العام 1990م وتحلل حلف وارسو واندحار القوات السوفياتية عن مناطق انتشارها في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى إلى العمق الروسي, وقد تبع ذلك تحولات سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية عميقة في بنية النظام الدولي من جهة وفي بنية دول الاتحاد السوفياتي السابق ودول أوروبا الشرقية من جهة أخرى وكان لها أثرها البالغ على جميع دول العالم, ومثلت هذه التحولات الجذرية انتصاراً للمذهب الفردي الليبرالي الحر على المستوى الفلسفي والفكري وهزيمة للفلسفة الشيوعية الماركسية وتطبيقاتها, وهذا يعني في لغة السياسة والعلاقات الدولية والصراع الدولي انتصاراً للرأسمالية العالمية وللديمقراطيات الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي أقامت أنظمتها السياسية على أساس فلسفة المذهب الفردي الحر, وانهاء لمرحلة الثنائية القطبية الدولية التي طبعت النظام الدولي السابق, وأخلت الميدان الدولي لصالح القطب الدولي الأوحد المهيمن على العالم سياسياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً... إلخ، وهو الولايات المتحدة, والتي أخذت على عاتقها اليوم القيادة والترويج للنظام الدولي الجديد ولمصطلح العولمة المرافق له والذي يعكس مصلحتها في السيطرة والهيمنة شبه المطلقة على هذا النظام الجديد, والتي تسعى إلى إحداث وتشريع ووضع آلياته ومنظماته وقواعده وقوانينه الخاصة التي ستحكم العلاقات بين أعضائه ومكوناته بما يكفل إدامة السيطرة والهيمنة على هذا النظام لفلسفة المذهب الفردي الليبرالي الحر ونظمه السياسية على المستوى العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعتبر نفسها الحارس الأمين لمثله ومبادئه وقيمه والتي ترى في انتشاره أساس أمنها وقوتها وتقدمها وتطورها ورفاهها وتسعى بالتالي إلى تعميمه كي يصبح مذهباً عالمياً تدين به جميع الدول والشعوب, وترى فيه الضامن الرئيسي لحماية أمنها ومصالحها ولحماية أمن ومصالح حلفائها الغربيين وغيرهم دون أية مراعاة لخصوصيات ومصالح وأمن الشعوب والمجتمعات الأخرى, ويجري تسويقه من قبل الولايات المتحدة على أساس خلق دوافع أمنية ومصلحية ذاتية في كل دولة من الدول تحت ذرائع الاصلاح والتحديث السياسي والاقتصادي والأمني وغيرها للهياكل والبنيات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية لتلك الدول.
ولذا فإن النظام الدولي الجديد ومفهوم العولمة المرافق له يجد نفسه في مواجهة وتصادم مع كثير من قواعد القانون الدولي ومبادئ العلاقات الدولية والتي استقرت وأصبحت قواعد ومبادئ محكمة للعلاقات بين الدول في ظل النظام الدولي السابق وفي مقدمتها مبدأ السيادة الوطنية للدول, وما ينجم عنه من حقوق للدول سواء في الدفاع والمقاومة وحق فرض القيود والاجراءات الحمائية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأمنية والعسكرية الخاصة بها.. الخ, والتي تمثل عوائق كأداء في طريق انتشار العولمة وسيادتها الكونية فلابد من إزاحتها حتى تتحقق مصالح القوة المهيمنة على النظام الدولي وشركائها وحلفائها, وبالتالي فإن مفهوم السيادة الوطنية للدول لابد ان يتحد ويتشكل ويتكيف من جديد مع متطلبات النظام الدولي الجديد ومفهوم العولمة المرافق له والذي يمنحه سمته الأساسية.
فالعولمة تحمل أبعاداً سياسية وقانونية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية وعسكرية لها انعكاساتها العالمية والوطنية, وتمثل مجتمعة ومتفاعلة في آن واحد معاً بدء مرحلة جديدة من مراحل التطور الرأسمالي الذي وصلت إليه الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة, وتفترض أن يتحول العالم أجمع وينتظم وفق قوانين وآليات السوق الداخلية للدول الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة, وهذا يقتضي إزالة كل العوائق التي تحول دون ذلك, وأن تضمن تدفق المواد الخام اللازمة لصناعاتها وفي مقدمتها النفط وبأسعار رخيصة ومناسبة حتى يتواصل التطور الرأسمالي وتتراكم الأرباح لدى كبار المستثمرين من الدول والشركات الرأسمالية الكبرى.
إننا نلاحظ من خلال مراقبة حركة النظام الدولي الجديد والدول الكبرى الفاعلة فيه تبلور تيارين يتجاذبان العولمة. الأول هو (تيار لبرلة العولمة) وأما الثاني فهو (تيار عسكرة العولمة), والتيار الأول والذي يمكن ان يطلق عليه تسمية تيار لبرلة العولمة وتمثله دول أوروبا وخصوصاً فرنسا وألمانيا وتحظى بدعم بعض الدول مثل روسيا والصين وكذلك الكثير من دول العالم الثالث التي ترى في هذا التيار إلى حد ما أكثر قرباً او مراعاة لمصالحها وخصوصياتها, ويعتمد هذا التيار على الأسلوب السلمي في نشر العولمة ومزاياها وآلياتها ويعتمد مبدأ الحوار على قاعدة الاعتراف بمصالح وخصوصيات الآخر إلى حد ما وينبذ استخدام العنف والقوة في فرض العولمة وآلياتها على الدول الأخرى, ويسعى لإعطاء دور بارز للأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة ومؤتمراتها الدولية للانتقال بالعالم من النظام الدولي القديم وقواعده إلى النظام الدولي الجديد وقواعده ومفهوم العولمة المرافق له, ولكن هذا التيار هو التيار الأضعف, ويمكن ان يوصف إلى حد ما بالتيار الطوباوي أو الأخلاقي, ولم يتعد دوره لغاية الآن أكثر من لعب دور المعارض المؤقت لخطط التيار الآخر حيث يجد نفسه مضطراً للحاق باجراءاته وتصرفاته لأن الآخر يملك زمام المبادرة والقدرة على فرض الحقائق والوقائع على الخريطة العسكرية والسياسية والاقتصادية الدولية منفرداً أو على أساس شبكة من التحالفات الدولية يقيمها على أساس الترغيب والترهيب كما حصل في موضوع افغانستان وموضوع العراق وموضوع السلام الاسرائيلي الفلسطيني!.
إذن فالتيار الثاني الذي يتجاذب مفهوم العولمة والذي له الغلبة هو التيار الذي يدعو إلى عسكرة العولمة وتمثله الولايات المتحدة الأمريكية وما تقيمه من شبكة تحالفات دولية في مقدمتها اسرائيل وبريطانيا وبعض الدول الضعيفة أو التي تجد مصلحتها الضيقة في الارتباط المباشر بالسياسات الأمريكية حتى ولو كان ذلك على حساب مصالحها المباشرة والاستراتيجية.
إن الولايات المتحدة ترى ان مصلحتها الأمنية والاقتصادية والسياسية لم تعد تحتمل انتظار المداولات الدبلوماسية والحوارات خصوصاً بعد الأحداث التي شهدتها في الحادي عشر من سبتمبر 2001م, فقد أجازت لنفسها اعلان الحرب على الإرهاب ثم على دولتين بعد هذا التاريخ دون ان تأخذ موافقة من الأمم المتحدة, بل رغم معارضة الأمم المتحدة والمعارضة الشعبية الدولية لكل شعوب العالم بما فيها شعب الولايات المتحدة الذي تظاهر في كافة المدن الأمريكية ضد اعلان الحرب على العراق فلقد كان الهدف أكبر وأهم وأسمى من معارضة الأمم المتحدة ومن معارضة الشعوب التي أدانت تلك الحرب ووصفتها بالعدوانية والظالمة, رغم محاولة الولايات المتحدة التذرع بذرائع أصبحت الكتابة عنها ممجوجة بعد ان أصبحت دوافع الحرب الحقيقية غير خافية على أحد!
لقد أصبح مفهوم العولمة بالنسبة للولايات المتحدة ليس مجرد نظام بل ارتقى إلى ايديولوجيا تسعى إلى تصديرها وتصدير أدواتها وآلياتها إلى جميع دول العالم, وان الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية رسولية من أجل نشرها وتثبيتها, فبعد ان سقطت ذرائعها في الحرب على العراق تركز الآن آلتها السياسية والإعلامية على ديكتاتورية النظام السابق ووحشيته وأنها جلبت من خلال حربها عليه وإسقاطها له واحتلالها للعراق الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان للشعب العراقي! وتدّعي أن العراق سوف يكون نموذجاً ديمقراطياً يحتذى لدول المنطقة العربية والشرق الأوسط! وان احتلالها للعراق لم يكن لما يمثله العراق بحد ذاته من ثروة اقتصادية نفطية هائلة ولا لما يمثله تجاه المنطقة والعالم فلقد جعلت منه عبرة للكثير من الدول والأمم التي باتت ترتعد خوفاً من جبروت القوة الأمريكية, وتعلن قبولها وتنفيذها بدون مراوغة لأجندة العولمة الأمريكية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وثقافياً وما الحالة الليبية إلا خير شاهد على ذلك, والتلويح باستخدام العقوبات السياسية والاقتصادية في وجه الكثير من الدول مثل ايران وسوريا وكوبا وكوريا الشمالية والسودان.. الخ، بل والتلويح باستخدام القوة العسكرية المباشرة في وجه البعض ان اقتضى الأمر ذلك إذا لم تنصع تلك الدول للمتطلبات الأمريكية التي تؤهلها أن تكون شريكاً في النظام الدولي الجديد وفي العولمة المرافقة له بقيادة الولايات المتحدة.
فالعالم اليوم لا يعيش في ظل قطبين متوازنين كما كان حاله في النظام السابق وإنما في ظل قطب أوحد, وفي ظل عولمة يتجاذبها تياران غير متكافئين, تيار ضعيف يؤمن بليبرالية العولمة التي تستند إلى ضرورة احترام قواعد القانون الدولي وخصوصيات ومصالح الدول الأخرى, وتيار قوي يؤمن بعسكرة العولمة ولا يقيم وزناً لقواعد القانون الدولي ولا يتورع عن استخدام كافة الأشكال العسكرية وممارسة العنف والحرب من أجل إرساء العولمة وتثبيت هيمنته وسيطرته وحماية أمن مصالحه التي أصبحت لا تحدها سوى حدود أسلحته المتطورة وشركاته العابرة للقارات. إن العالم اليوم في ظل النظام الدولي الجديد وفي ظل العولمة وتياراتها أصبح أكثر إرهاباً وأقل أمناً وسلاماً مما كان عليه العالم في ظل النظام الدولي السابق, فلئن شهد العالم في ظل النظام الدولي السابق حروب الاستقلال ضد الاستعمار القديم في افريقيا وآسيا وحروب تصدير الثورات الاشتراكية والتي أججتها ظاهرة الاستقطاب الدولي بين القطبين سابقاً, فإننا نشهد اليوم الحروب على الإرهاب الذي انتشر في العديد من بقاع العالم بسبب بعث الأصوليات من مراقدها التي لا تستطيع ان ترى في الآخر إلا خصماً وعدواً لها, وهي غير مقتصرة على ديانة محددة بعينها. ونشهد حروب تصدير الديمقراطية والعولمة التي أخذ القطب الأوحد على عاتقه خوض حروبها وتصدير الديمقراطية الليبرالية إلى الدول والمجتمعات التي لا زالت بعيدة عن جنة الديمقراطية الموعودة بواسطتها.
إن تيار عسكرة العولمة يقود العالم اليوم إلى كلونيالية جديدة استعمارية مباشرة تجعل الأمن والسلام الدوليين في خطر دائم وحلماً وأملاً بعيدي المنال.
إن تيار عسكرة العولمة والذي مثله الجمهوريون في السنوات الأربع الأخيرة في إدارة الولايات المتحدة بشكل صريح لا يعني انتقال السلطة منهم إلى الديمقراطيين نهاية له, لأن هذا التيار المتمثل في عسكرة العولمة يمثل مصالح الفئات المتحكمة في الولايات المتحدة وهي موجودة في الحزبين الأمريكيين المتنافسين على السلطة فيها, فعسكرة العولمة تمثل سياسة استراتيجية ثابتة للولايات المتحدة لن تتأثر بانتقال الإدارة الأمريكية وتداولها بين الحزبين إلا في بعض التفاصيل الدقيقة.
|