لا أدري من ماذا اشتقت كلمة سياحة؛ وهي أفعال يقوم بها فرد أو مجموعة في فصل الصيف أو حتى الشتاء بحثاً عن مكان غير ما اعتادوا عليه؛ وعندنا ولله الحمد كثير من قومنا يسيحون في الأرض بحثاً عن السياحة ذاتها في أماكن بعيدة عن الأعين والوجوه التي اعتادوا عليها، وأهم شيء يكسبه السائح صيفاً، خاصة أصحاب الجاه، أنه يسلم ويهرب عن وجوه تزعجه في مسألة مرتب لها أن تكون صيفاً حتى لا يحرج أولئك منها؛ والمسألة هي أن الطلبة يتخرَّجون من الثانوية العامة وكل يتجه صوب هدفه، لكن الأكثر يتجه للكليات سواء العسكرية أو الدراسة العلمية أو النظرية، وحينما قال ابن حثلين العجمي رحمه الله:
هذا ولد عم وهذا ولد خال.. وهذا رفيق ما ندور بديله
فلعله رحمه الله يرمز إلى القبول في الكليات المختلفة لأبنائنا الطلاب؛ حيث ابن العم وابن الخال مقدَّم على من هو أفضل منه؛ وإن اضطر الأمر فسوف يتم البحث عن مدخل لخرق النظام معللاً ومدللاً بأن هذا المتقدم هو الأولى بالقبول من غيره؛ لذلك يهرب من لهم تأثير عمن لهم معرفة بهم، وقد قال لي أحد الكبراء ذات يوم حينما جئت مهنئاً له على سلامة الوصول للوطن ودار الحديث: والله يا أبو ناصر لو ما يجينا من السياحة إلا السلامة من الواسطة فيكفينا.
أما الهدف الثاني من السياحة فهو هدف أسري؛ فلو حسبنا شهور الدراسة التي هي تبدأ صباحاً وتنتهي ظهراً على وتيرة واحدة لرأيت أن المدة طويلة ومملة إلى درجة الخور؛ فتكون العطلة متنفساً لمن له أسرة لكي يرفِّه عنهم وعن نفسه من الدوام المزدحم؛ وهؤلاء عدة أصناف؛ وقد رفع الله الناس بعضهم عن بعض درجات في الدنيا؛ فهناك القادر على تذاكر السفر جواً وبالدرجة الأولى إلى أي بلد بعيد جداً جداً؛ وهناك من هو دون ذلك، وهناك من لا يستطيع إلا الذهاب لقريته؛ وهو يعلل ذلك لأولاده بقوله: نشوف الجماعة ونسلِّم عليهم. وهؤلاء القرويون أجناس؛ فالقرى في أغلبها صارت ميتة لأن أهلها هجروها بحثاً عن منافع لهم في المدن، فهلكت بيوتهم، ولا يوجد في القرى بيوت للإيجار؛ فهم يزورون على عجل، ويعودون للمدينة التي جاءوا منها، وبعضهم قد ابتنى له بيتاً في قريته يزوره دائماً، ومن الناس من يسيح في مملكته الحبيبة الآمنة المطمئنة، ثم يختم سياحته بعمرة أو بزيارة لمسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهؤلاء هم الأكثر محافظةً حسبما نسمع عنهم، وهناك المعذبون والذين يعذبون خلق الله، وأغلب هؤلاء هم الذين لا يتركون دابة في جحرها؛ بل يطاردون الضبان في عز القيلولة؛ حتى إذا انتهت رحلتهم جاءوا وقد تغيَّر لون أحدهم إلى لون أسحم فاحم من لهب الصحراء واللهاث خلف الضب واليربوع.تلك أصناف من هموم السياحة؛ وهناك من سياحته هي روتين يومي، من مكتبه إلى منزله، وقد أصيب بالترهل في الصيف؛ لذلك فزيارته للأصدقاء والمعارف شبه ميتة؛ لأن الكسل له طعم لا يعرفه إلا الكسول مثلي؛ فجرِّبوا الكسل حتى تذوقوا طعمه فتكسلون ولا تسيحون فتوفرون ثم تصرفونه لشركة الكهرباء جزاء التبريد المستمر!!...
فاكس: 2372911
|