سعادة رئيس التحرير الأستاذ خالد بن حمد المالك حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
لقد اطلعت على إعلان معالي وزير العمل الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي - حفظه الله - والذي نشر على صفحات جريدتنا الغراء (الجزيرة) في يوم الأحد الموافق 18 من ربيع الآخر 1425هـ، حول تراجع معاليه وتوجيه مكاتب العمل باستئناف استقبال ودراسة طلبات الاستقدام المقدمة من المؤسسات الصغيرة التي يقل عدد العاملين لديها عن عشرة عمال...
هذا التراجع عن القرار والذي أستطيع ان أعتبره (تكتيكياً) لثقتي المفرطة في قدرات معاليه، بعد أن ضج كتاب الصحف ورواد المنابر الإعلامية شجباً وتنديداً على ذلك القرار بإيقاف ومنع الاستقدام على الصغيرة والذي أتى مخيباً ومفاجئاً لتطلعات الكثيرين، خصوصاً المتطفلين على سوق العمل، حتى استحل بسبب هذا القرار دم كينز وآدم سميث، وتطايرت فتاوى أنصاف الجهلة في علم الاقتصاد، وانبرى كل شخص تحليلاً وتعليقاً حول جدوى هذا القرار. وهذا ديدن بني البشر فهم أعداء لما يجهلون. كما وأن في موروثنا الشعبي أمثلة لها مغازٍ، علمها من علمها وجهلها من جهلها وتبقى متداولة ما بقي الزمان، ومن ذلك قولنا: أهل مكة أدرى بشعابها، وقولنا أيضا: (أعطي الخباز الخبزة ولو أكل نصفها)، وأيضاً: (أعطي القوس باريها). ففيها وغيرها تأكيد على أن الرجوع لأهل المعرفة والحل والعقد من أساسيات بناء الأمم وتطور الحضارات، وان لو كل من أتى ونجر ما بقي في الوادي من شجر.
وهنا مربط الفرس وبيت القصيد فما أن اعتلى معالي الدكتور غازي كرسي الوزارة الجديدة (العمل) حتى بدأنا بقدح الأذهان إلى الوراء لنتذكر وأحياناً نسأل عن تلك البطولات التي تصبحنا بها (من شتات) وأعمدة الصحف اليومية، وأغلفة المجلات. بل ازداد حماسنا ورقصنا نحن - أغلب السعوديين - حينما اجتمع برجال الأعمال أصحاب المنشآت الكبيرة بغرفة تجارة الرياض واضعاً النقاط على الحروف واعداً ومتوعداً كل من يحاول ان يفقد السوق إحدى آلياته.
وقد تنبأ معالي الوزير بهذا الهجوم الصارخ على خطته الاستراتيجية، فمهد لها تمهيداً وطنياً عند تلاوته للأسس والمبادئ المنهجية التي ستسير عليها الوزارة خلال ثلاث سنوات من توليه مهام الوزارة، فقال في بيانه: (إن مشكلة البطالة بين السعوديين تمثل تحدياً خطيراً لا يمكن التعامل معه بالمهدئات والمسكنات والإجراءات الرمزية، وهذا التحدي يحتاج إلى قرارات حازمة وحاسمة، وقد تكون أليمة في بعض الأحوال وان المصلحة الوطنية العليا تتطلب إنهاء مشكلة البطالة، وهذه المصلحة تعلو على أي مصلحة فردية إذا تعارضت معها). انتهى كلامه.
وحيث إنني من المهتمين بقضايا السعودة وسوق العمل، أود أن أطرح بين يدي معالي الوزير وأمام جميع القراء الأكارم عدة نقاط تتناول ذلك القرار المؤلم والحاسم (قبل تغييره) من زوايا قد تكون قريبة ملموسة عند البعض، لكنه بالتأكيد مفيد من زوايا طويلة بعيدة الأجل للوطن والمواطنين، وكم كنت أتمنى أن لا يصاب أي قرار يصدر من هذه الوزارة الوليدة بأي نوع من التأجيل أو التغيير لأن المشكلة التي نعاني منها أكبر من تعرقل بمقال صحفي.
1 - ما هو المقصود بالمنشآت الصغيرة؟
بحسب التعريف الذي قدم لمنتدى الرياض الاقتصادي في شعبان 1424هـ (هي المنشآت التي لا يزيد عدد العاملين بها عن عشرين عاملاً ويقدر حجم رأس المال فيها بأقل من مليون ريال، ولا تزيد مبيعاتها عن خمسة ملايين ريال). وبالتالي فإن ذلك القرار الاستراتيجي بالمنع أتى محدداً لشريحة معينة من المؤسسات الصغيرة وليس كلها وهي التي لا يزيد عدد العاملين بها عن عشرة أفراد، وليس كل المنشآت الصغيرة.
2 - لا يصح الخلط بين المصانع الصغيرة والمحلات الصغيرة، لأن المعامل والمصانع الصغيرة في أغلب دول العالم تساهم وبنسبة جيدة ومقبولة في تكوين الناتج المحلي الإجمالي، وتسد هذه الدول احتياجاتها من السلع عبر هذه المصانع والمعامل الصغيرة، ويتم تصدير الفائض من إنتاجها إلى الخارج الأمر الذي يؤدي إلى وفرة العملات الأجنبية داخل البلد. بل وتعتبر مرحلة من مراحل التطور الصناعي والتوسع المستقبلي. حتى ان بعض الواردات إلينا هي من إنتاج المعامل والمصانع الصغيرة التي في ماليزيا وتايوان وتايلاند وإندونيسيا وغيرها، وبالتالي فهي تعد كذلك أكبر قطاع مشغل ومستوعب للأيدي العاملة (المحلية).
3 - أما المحلات الصغيرة فهي تلك الأنشطة التجارية والحرفية البسيطة كالبقالات ومحلات بيع الملابس والمغاسل والبوفيهات وورش الميكانيكا والنجارة ونحوها، والتي انتشرت في الأحياء فضلا عن الشوارع والمناطق المخصصة لها انتشار النار في الهشيم حتى أنك تشعر أحياناً ان عددها أكثر من أعداد السكان وهي في الحقيقة لا تضيف قيمة إنتاجية في المجتمع وإنما تعمل على إعادة توزيع السلع والخدمات (تجارياً) وبالتالي فإن قصر هذا النوع من النشاط على السعوديين (في المدى الطويل) سيكون له أثر كبير في توفير فرص عمل للأجيال القادمة حيث يعد نمو السكان في المملكة من أكبر المعدلات عالمياً.
4 - إن قرار وقف الاستقدام لا يعني بالضرورة عدم تجديد رخصة العمل (التي بموجبها يتم استخراج الإقامة) أو منع نقل الكفالة - على الأقل في الوقت الحالي - وبالتالي فإن أصحاب المنشآت الحالية يمكنهم المحافظة على ما تحت كفالتهم من عمالة وافدة، وتحسين أوضاعهم الوظيفية والمعيشية. وللذين يرغبون بالدخول في عالم المنشآت الصغيرة فعليهم عقد النية والرغبة بنقل الكفالة وسيجدون أرطال السير الذاتية تملأ صناديق البريد وأجهزة الفاكس لأن السوق المحلي مشبع حتى الثمالة بعمالة وافدة تعاني من مشكلة البطالة، فقد نشر في بعض الصحف المحلية قبل بضعة أشهر ان الوافدين الذين يعانون من مشكلة البطالة في المملكة يقارب تعدادهم النصف مليون عاطل.
5 - إن المعروض في السوق المحلي من العمالة الوافدة يحتاج إلى عشرات السنين للتخلص منها، وبالتالي فإن قرار معالي الوزير بوقف الاستقدام هو من باب تشبع السوق وعدم الحاجة للمزيد من الاستقدام، وقد نص نظام العمل والعمال السعودي على ان يقصر الاستقدام على أصحاب التخصصات التي لا يوجد من أبناء البلد من يزاولها، وقد أكد معالي الوزير آنذاك من ان الهدف من هذا القرار هو إتاحة فرص عمل أكبر للمواطنين السعوديين والذين يتوفر لديهم مهارات في مختلف المهن، وقال: إن هناك أعداداً كبيرة من السعوديين طالبي العمل تم تدريبهم وتأهيلهم في معاهد التدريب الحكومية والأهلية ومن خلال برامج أمراء المناطق وهم قادرون على القيام بالمهام المهنية المطلوبة بكفاءة واقتدار. انتهى كلامه حفظه الله.
6 - إن أعداد الشباب الخريجين في المملكة والمعدلات العالية لنسب السكان ممن تقل أعمارهم عن 20 سنة، بالإضافة لوجود أربعة ملايين مواطن سعودي سيدخلون سوق العمل خلال العشر سنوات القادمة، يتطلب توجيه المزيد من الجهد لتنظيم قطاع الأعمال الصغيرة وتطويرها كمياً ونوعياً لتواكب المتغيرات في سوق العمل.
7 - المتاجرة بتأشيرات العمل حيث بلغت عمليات نقل الكفالة 70% من إجمالي التأشيرات المصدرة خلال عام واحد، وقد أوضح معالي الوزير ان 30% فقط هي التأشيرات الصحيحة، وان المتسبب الحقيقي بهذه الظاهرة هم المتطفلون على سوق العمل أصحاب المحلات الوهمية التي تستخرج تأشيرات استقدام للتكسب والبيع وبالتالي فإن وقف الاستقدام على هذه الفئة هو الخيار الاستراتيجي للحفاظ على آليات السوق من الانحراف والانعطاف.
8 - انتشار ظاهرة التستر التجاري، حيث أشارت بعض المصادر ان 90% من المنشآت الصغيرة والتي يقل أعداد عمالتها عن عشرة عمال تدار بأيدٍ وافدة، يتكبد الاقتصاد المحلي بسببها خسائر تقارب الـ60 مليار ريال سنوياًَ عبر التحويلات البنكية، ناهيك عن المبالغ النقدية التي تحمل باليد والحقائب عبر منافذ الخروج.
9 - نسبة السعودة في المنشآت الصغيرة 2.62% حسب إحصائية أشار إليها معالي وزير العمل والشؤون الاجتماعية (السابق) أثناء اللقاء الذي عقد في مجلس الغرف السعودية في غرة عام 1425ه حيث أشار إلى ان عدد العمالة في المنشآت الصغيرة (التي تقل أعداد عمالتها عن عشرين عاملاً) بلغ (1537089) عامل، منهم (1496838) وافد، و(40251) سعودي، وبالتالي فإن نسبة السعودة في هذه المنشآت بلغ 2.62% هذا على اعتبار ان عدد العمالة في هذه المنشآت 20 عاملاً، أما لو اقتصرت الإحصائية على المنشآت ذات العمالة الأقل من عشرة فالذي أتوقعه (ومن خلال نظرة شخصية غير بحثية لا تتعدى ال0.5%).
(في المؤسسات المشابهة لها كما في دولة إندونيسيا مثلا: تسهم في توظيف 80% من القوى العاملة المحلية، وفي إيطاليا 70% وفي أمريكا 43% أي أنها تؤدي دوراً حيوياً وبارزاً في توفير فرص العمل للمواطنين).
10 - قلة العرض من المؤسسات الصغيرة سيزيد الطلب على السلع والخدمات التي تقدمها، وبالتالي ستزيد نسبة المبيعات ومعها سترتفع دخول العاملين فيها لتكون أرضاً خصبة لاستقطاب السعوديين، وتجربتنا مع محلات الخضار والفواكه أكبر شاهد فلقد صاح جمع كبير من كتاب الصحافة والمحليين (بزعمهم) بعد ذاك القرار الإلزامي بقصر العمل فيها على السعوديين حتى كدنا نصدق هروب الفواكه والخضار إلى غير رجعة لكن السوق أكبر من ان يتأثر بذلك وما هي إلا فترة انتقالية أعاد السوق هيكلة نفسه وعادت الحياة كما كانت بل وأفضل.
11 - أشارت بعض التحليلات الصحفية إلى ان هذا القرار سيحفز الشركات الكبيرة لاستغلال هذا القرار لزيادة الأسعار - وقد يكون هذا التحليل صحيحاً (في أراضي الفانتزي لاند) لكن في غير علم الاقتصاد - لأن السوق المحلي سوق مفتوحة حرة، كما وان أسعار المنتجات التي تقدمها الشركات الكبيرة (في هذا الوقت) تعادل وتساوي أسعار المنتجات التي تقدمها المحلات الصغيرة مع الأخذ بعين الاعتبار (المحددات الأخرى للأسعار). وبالتالي فإن زيادة الطلب على منتجاتها سيزيد من دخول شركات جديدة وسيزيد كذلك من المنافسة بين الشركات الحالية لتخفض الأسعار أكثر وأكثر وتحسين مستوى الجودة والخدمة المقدمة، كما وان مراقبة المنشآت الكبيرة من حيث تطبيق قرارات السعودة والتدريب سيكون أسهل بكثير من متابعتها على المؤسسات الصغيرة.
12 - الرعاية التي ستوليها الدولة للمنشآت الصغيرة، فمما أوصت به الخطط الخماسية التنموية، وخصوصاً خطة التنمية الاقتصادية الخامسة (1410- 1415هـ) فقد أشارت إلى أهمية النظر في اللوائح والإجراءات التي يكون من شأنها تدعيم مساهمة المنشآت الصغيرة في الاقتصاد الوطني. والنظر بتقديم مزيد من الدعم والتمويل للصناعات الصغيرة.
13 - تناقلت الصحف المحلية قبل عدة أسابيع عن إشهار وزارة المالية السعودية عن صندوق لضمان إقراض المؤسسات الصغيرة برأس مال مائتي مليون ريال تسهم الوزارة بمائة مليون والبنوك المحلية بالمائة الأخرى، هذا الضمان الحكومي للمؤسسات الصغيرة ان لم يكن لصالح المواطنين السعوديين من خلال تنظيم هذا القطاع فنحن كما يقال: (ننفخ بقربة مخرومة).
14 - صدور أمر ملكي كريم في 20 -5 - 1425هـ بإنشاء مؤسسة خيرية بمسمى (صندوق المئوية) يهدف - وبمساندة رجال الأعمال - إلى مساعدة الشباب من المواطنين والمواطنات الذين يسعون إلى تحقيق استقلال اقتصادي ذاتي ولديهم الرغبة في مزاولة الأعمال التجارية الحرة. هذا الأمر الكريم إن لم يكن لصالح المواطنين مباشرة من خلال قصر هذا القطاع على السعوديين فنحن كما يقال: (مثل النخلة العوجاء بطاطها بحوض غيرها).
15 - المملكة في طريقها للدخول في منظمة التجارة العالمية مما سيفتح الباب على مصراعيه للسلع والخدمات الخارجية وبما ان المنشآت الصغيرة تتمتع بمرونة عالية للتوافق مع متطلبات السوق، لقلة التكاليف الثابتة والمتغيرة مما سيسهم في توفير المستلزمات المحلية (السلع والخدمات) بأسعار منافسة في وجه المستوردات الخارجية.
16 - من ضمن توصيات منتدى الرياض الاقتصادي 1424هـ في محور المنشآت الصغيرة خمس آليات:
الآلية الأولى: إنشاء هيئة عليا لدعم المنشآت الصغيرة.
الآلية الثانية: إنشاء صندوق تمويل المنشآت الصغيرة.
الآلية الثالثة: إنشاء شركة لضمان مخاطر الائتمان للمنشآت الصغيرة.
الآلية الرابعة: إنشاء حاضنات الأعمال الصغيرة.
الآلية الخامسة: إنشاء شركة لتسويق منتجات المنشآت الصغيرة.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال تفعيل هذه الآليات في قطاع لا تتعدى نسبة السعوديين عن 2.62% (وهم المستهدفون بالدعم) وبالتالي يجب فلترة هذا القطاع وتهيئته وإلا سنكون كما يقال...
17 - من فوائد هذا التنظيم وقصر العمل فيه على السعوديين أننا سنفوت الفرص على تهرب أصحاب المنشآت الكبيرة من الالتزام بالبعد الاجتماعي لأن من حق المجتمع الذي تعمل فيه تلك الملايين المملينة ان يقدم أصحابها للمجمع أنواعاً شتى من الدعم على صور تعليم وتدريب وتأهيل وبناء للمرافق العامة ونحوها مما هو معمول به في كل أرجاء الدنيا.
18 - أهاب معالي الدكتور غازي القصيبي بالمؤسسات الصغيرة ان تستعين بطالبي العمل السعوديين خاصة وان كل المهارات المطلوبة في أعمال هذه المؤسسات متوفرة في الوقت الحاضر في سوق العمل السعودي. كما وأن المادة (50) من نظام العمل والعمال السعودي تنص: على كل صاحب عمل إعداد عماله السعوديين مهنياً للحلول محل غير السعوديين، وذلك بتحسين مستواهم في الأعمال التي يمارسها العمال غير السعوديين بحيث يحل العامل السعودي محل غير السعودي.
19 - أرجو ان يكون هذا التوجيه مؤقتاً كما أشار إلى ذلك معاليه لإعطاء أصحاب المنشآت الصغيرة فرصة أخيرة لتصحيح أوضاعهم.
20 - أخيراً.. أرجو ان يكون يوم 5 -7 - 1425هـ موعداً نهائياً لتطبيق ذلك القرار الوطني، كما أشار إلى ذلك معاليه حيث قال انه ومن خلال مكاتب العمل ووفق آلية محددة وسريعة سوف يتحقق الهدف المطلوب وهو الحد من الاستقدام بشكل عام وإتاحة فرصة عمل أكبر للمواطنين السعوديين.
أحمد بن عبدالله العرفج
باحث في قضايا السعودة وسوق العمل
|