كنتُ منذ طراءة الصبا وهشاشة العود امرأ أكره اللحن النحوي، وأتقيه من وُجدي كما أتقي النار، وأتصامّ إمّا نما إلى أذني لحن أي لحن، وأعيد الجملة على الوجه الصائب مرات عدة، كل أولئك حذر أن يتغلغل في نفسي، ويتخذ له فيها مستقراً ومُقاماًَ! كان هذا من قبل، وكنت إذ ذاك أغالب نفسي، وأرهقها من أمرها عسراً، ولكن الكثرة تغلب الشجاعة، فما كان لي من بعد بدّ إلا الخضوع والاستسلام، ورفع اليدين بالشكاة إلى الله على ما بلغناه من حال بئيسة!
وقد أذكرني ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وأنا أحسبني مولوداً على فطرة إقامة اللسان، والسلامة من اللحن، ولكن التنشئة والعوامل المطوّفة أغلبُ وأحكمُ، ومن أجل ذلك فإني الآن أدافع عني ماء ثجاجاً يكاد يجرفني معه، وإلا يرحمني الله أكن من الخاسرين!
وإن تكن البيئة قد تركت في أثراً ظاهراً، ونازعتني لساني فإن المرء حين يكابد نفسه، ويكابر طبعه فلا يلبث أن ينتظم له ما حاول، ويتسق له ما أمّل!
وقد نفعني صنيعي هذا أيما نفع، إذ كلما وقع من حولي لحن انتبهت له وإن كنت غافلاً، حيث أضحى إحساسي أرهف وأرق، وما ذلك إلا بالدُّربة والمران!
وتجربتي هذه لم أعرضها فيما هاهنا إلا ليستفيد منها القراء في مجانفة اللحن، وفي مغالبة الطبع وتقويمه بخاصة، فإن كل من رأى من خلائقه ما يكره لم يكن له من دواء شافٍ إلا طول المحاولة، وإدامة التقويم، وسيرى من بعد - بإذن الله - ما تقرّ به عينه، وتسكن إليه نفسه.
ثم نعود إلى القول في اللحن، فإني أراه متفشياً جداً، والواقعون فيه كثير، وكلما بعد العهد بالقرون الأولى ثبتت قدمُه، واشتدَّ أمرُه، ولا أجد له من حل إلا بتعاون الناس كافة، وتعاضدهم على وأده، واستفزازه من الأرض! ثم لهذا سبل شتى، منها الإعلام بجميع مساربه فإنه في صدر مسيري الناس، فإن يكن صالحاً خالصاً من اللحن يكن متلقوه كمثله، وإلا يكن لا يكونوا، ثم المواد الدراسية فإن لها سبباً وثيقاً في تسيير الناس من حيث اللغة وإقامة اللسان، وكذلك الناس كافة فإنهم بسكوتهم عن صاحب اللحن يجعلونه يمد باللحن لسانه مداً، ثم يفسد بذلك فطر الناس السليمة فيعتادون على اللحن وتزيغ ألسنتهم، وكذلك يستفحل اللحن بيننا، ثم يؤثر المجتمع الصغير فيما هو أكبر منه، والله المستعان.
ولقد كان اللحن في القرون الأولى مذمة وعاراً يَشين صاحبه ويلزمه مثلبة وعيباً، وكان يضع من قدر الشريف، ويحط من منزلة العالم، وكان بعضهم يؤدب أولاده إذا لحنوا، أما اليوم فلا يلحق بصاحب اللحن منقصة ولا وصم، فوقع فيه من وقع، حتى إن فريقاً من أولي الشرف والرئاسة هم فيه واقعون، ولو أنهم وجدوا من ينكر عليهم ذلك، ويعيبهم به لحملهم على تعلم شيء من النحو والعربية يقيمون به ألسنهم، ويحفظونها من اللحن، ولكن سواء عليهم ألحنوا أم لم يلحنوا، فالأمر سيان، والناس غافلون! ومن غير ريب فإنه يُعلم لدى كل أحد أن اللحن لا يمكن توقيه ولو بلغ الحرص من صاحبه مبلغاً إلا أن يتعلم طرفاً من علوم العربية جميعها، كيما يدرأ عن نفسه مزالق اللسان، ويتبوأ من بعدُ مكاناً علياً لا ينفسه عليه أحد، ولو فعل العربُ ذلك لما ظلْنا نهوي إلى القاع هُويّ الأجدل، ولكان لنا شأن آخر، ولكن القوم في غمرتهم ساهون.
|