قليلاً ما يتوقف الإنسان عن الركض في هذه الدنيا، ليتأمل حياته.. ما لها، وما عليها.. يعيد الحسابات، ويجدول الأحداث، ويرتب الأوراق، ويحاول أن يسمو بتفكيره ليدخل عميقاً في ذاته، ويزيل الأدران عن نفسه.. يحررها.. يراها في مرآة الصدق.. يدرك موقعه، ويعرف حجمه الحقيقي، فتتضح أهدافه.
نسير في دنيانا في كبد متواصل.. بطموحات كبيرة تفوق إمكانياتنا، وأمل ليس له حدود، ولا ندرك أبداً ان ما نصبو إليه قد يكون من المستحيلات، ومن الخيال في مكان، دونه خرط القتاد حتى توقفنا محطات الفشل الذريع، فنخضع له.. منكسرين وبلا مقدمات.
يوقفنا النجاح أحياناً، فننتشي، ونتلذذ به.. نحس متعته التي حُرمها الفاشلون، ونتذكر كيف كان صعباً هذا النجاح، وكيف كان للحظة في حكم المستحيل، وفي لحظة أخرى.. بعد زوال النشوة.. إنه مجرد حادث مبهج للحظة.. لا أكثر.. لا أقل، وقد تسخر نفوسنا منا، مُذكرة إيانا بأن غيرنا حقق مثله بكل بساطة وجهد لا يذكر.
نقف تارة أخرى عند الفشل.. أياً كان.. في علاقاتنا الخاصة.. ربما الزوجية.. الأسرية.. الصداقات، أو في محيط العمل مع رؤسائنا، أو مرؤوسينا، وأقراننا، فتنكسر نفوسنا، ونشعر بالإحباط، وتنفجر في وجوهنا أسئلتنا التي غالباً ما نخفق في الإجابة عنها.
يوقفنا بكاء أخت، أو انكسار أخ، ربما مرض أم، أوغضبة أب، حينها تبدو الدنيا في عيوننا ظلاماً دامساً حالك السواد، وتتبدى لعيوننا قسوتها، وكيف أنها متاهة ساخرة، ندور في حلقاتها المفرغة المفزعة.
نتوقف عندما نشعر بالألم من خنجر ولج ظهورنا غدراً من صديق عزيز وثقنا به، وآمنا له، في وقت اتكأنا عليه بكل ثقلنا لنتفاجأ بالفراغ الذي كنا نتكئ عليه.
توقفنا خيانة حبيب باع الحب بأبخس الأثمان، فأصبح سماً نقيعاً، وقتما ظنناه بلسماً شافياً، وحين كنا نراه زهوة الحياة وطيبها، تحول ليكون كدرها وبؤسها.
نتوقف متجمدين عندما يموت طفل، أو تصبح طفلة رقيقة حبيسة للسرير الأبيض، وتقسو علينا المعرفة، فندرك ان قدرها ان تنتهي في بدايتها، وعز براءتها، وقبل أن يلطخ قلبها السواد.
توقفنا دمعة حرى، تذرفها عين لاعها الزمان حرقة، تسيل على لحية بيضاء.. نورها الزمن.. عندها نعلم جيداً أن دنيانا ظالمة لا ترحم، تلهو بآلام شيخ لا قدر عندها للمشيب، ولا ترى له حقاً في سعادة بسيطة، ينشدها في عقده الأخير من الحياة.
نقف عندما نفقد أماً، أو يموت أب، أو نواري الثرى أخاً كان لنا عضداً، فنرى في الوجود فراغاً كبيراً، كان مملوءاً، ولم نشعر به من قبل، وندرك ان هذا الفراغ القاسي، لا يمكن ان يمتلئ بغيرهم.
محطات ومحطات تمتلئ بها حياتنا، نتوقف عندها مجبرين بلا إرادة ولا خيار، وندرك لحظتها انه كان علينا ان نقف عندها بإرادتنا قبل ان تجبرنا على ذلك رغماً عنا ونتألم، ونعاود المسير، دون ان نعتبر، لتوقفنا مرة أخرى محطة جديدة.. لتتكرر المحطات دون ان نعي إلى أي مدى نحن ظالمون لأنفسنا، وللآخرين، ونستمر في المسير حتى توقفنا المحطة الأخيرة بعدما تكون كل الفرص قد ضاعت، حيث لا ينفع الندم، فتكون هذه الوقفة نهاية كل المحطات، ونهاية كل البدايات.
|